كتب جدي - رحمه الله - في الماضي رسالة لأحد أبنائه, وكان ذلك الابن مغترباً. سطر في تلك الرسالة الهموم والغموم وموت نصف الأسرة وضيق ذات اليد, وزيادة في التعبير أحرق طرف الورقة لتكون أبلغ في وصف الحال وأكثر تأثيراً في نفس الولد. استغرقت تلكم الرسالة أشهراً لكي تصل إلى الولد الذي أخذ يضرب بطون الإبل أشهراً أخرى حتى وصل إلى مرابع قومه. كانت المفاجأة التي لم تخطر على بال الولد أن جميع ما ذكر في الرسالة عبارة عن "قفشة" من العيار الثقيل, وأن والده وأسرته بأنعم حال ولم يحصل شي مما ورد في الرسالة, حيث كان غرض الأب سرعة تزويج ذلك الولد من إحدى بنات الحي الجميلات التي خشي أن تتزوج قبل رجوعه.
تلك صورة واحدة من الماضي, أما اليوم فيكفي من ذلك العناء كله ضغطة زر واحدة توصله بمن يريد بالصوت والصورة, حيث أصبحنا نعيش في عصر السرعة والتقنية الذي أخذ بتلابيب حياتنا. فبعد تلك الإبل التي تضرب في الأرض أشهراً, وبعد ذلك الجهد والوقت الذي يصرف في سبيل نسخ كتاب واحد, وبعد ذلك الحرث والزرع أشهراً للحصول على كيس واحد من البر, أصبحنا - وبحمد الله - نعيش في رغد من العيش ووفرة من الأمن في ظل حكومة تعمل على راحة مواطنيها ورفاهيتهم. فبدلاً من تلك الأشهر, تحتاج الآن فقط إلى سويعات قليلة لتسافر في أصقاع المعمورة أو تتصفح كتاباً أو تحصل على كيس من الدقيق من السوق المجاور.. إنه عصر السرعة والتقنية الذي يقاس الزمن فيه بوحدة الثانية, وأصبح الكون فيه قرية واحدة.
لا يقطع إيقاع هذا العصر المتسارع إلا بعض السلوكيات التي نشاهدها هنا وهناك والتي تشعرك بأنك مازلت في غياهب العصر "الأردوفيشي". فمع أن والدنا خادم الحرمين- وفقه الله - قد وجه بسرعة إنجاز معاملات المواطنين إلا أننا نجد بعض الدوائر الحكومية وما أدق من سماها "دوائر", فلكي تنهي معاملتك لابد أن تدور ثم تدور ثم تدور حتى تضيع جهات الكون الأربع التي درسك إياها معلم الجغرافيا في المرحلة الابتدائية, نجد تلك الدوائر تتعامل بالأشهر والسنوات كوحدة للزمن، وتسير سير السلحفاة في زمن السرعة والتقنية
فمثلاُ عندما تتقدم بطلب للحصول على قطعة أرض تقيم عليها منزلاً يؤوي أطفالك فلا بد من أحد ثلاثة أمور. إما أن يتقدم جدك في شبابه بذلك الطلب لكي تحصل أنت على تلك الأرض وتدعو له بالرحمة, أو تقوم بتلك المهمة ليحصل عليها حفيدك وخيراً إن دعا لك بخير, أو تتقدم أنت بالطلب, وتكون محظوظاً بتلبية طلبك وأنت في مرحلة "أرذل العمر" في وقت تصحح لك الناس كلمة "خفش" بأنها خبز. بعد ذلك تبدأ المشوار الثاني بطلب الحصول على قرض لتبني على تلكم الأرض وما أشبه الليلة بالبارحة. أليست مساحة بلادنا مليونين وربع كيلومتر مربع؟ لماذا لا تُخطط بعضاً من تلك المساحات ويلبى طلب كل شاب بالحصول على قطعة أرض يقيم عليها بيتاً ويبدأ حياةً هنيئة؟ لماذا لا يُلزم المقترضون المتهربون من السداد حتى يحصل أولئك المتقدمون الجدد على قروض تساعدهم؟

أما العزوف عن التقنية فيتجلى ذلك في أهمية الملف الأخضر "العلاقي" الذي قد يكون رفيق دربك إلى أغلب مراجعاتك, وإذا تبرمت من ذلك الملف "الأخضر" فقد يتهمك الموظف في وطنيتك ويصيح بأعلى صوته "أووه.. يا الأخضر". تقنية الحاسب الآلي تعتبر من صناعة الغرب "الكافر" ولا يجدر بنا استخدامها, ويحسن بنا التمسك بذلك الورق ولا بأس من استخدام تعابير مختلفة من خط أحمر أو إضافة كلمة "عاجل" أو إحراق طرف الورقة كما فعل جدي لكي تُبيّن أهمية الموضوع. أما خدمة الهاتف فقد وضعت لكي تكون أصوات نعيق أجراسها خلفية سيمفونية نشاز لتلك المكاتب المخملية وليس للرد على استفسارات المراجعين.
شيء آخر قد يعود بنا إلى الوراء "متشقلبين" وينسينا عصر السرعة والتقنية وهو إرساءُ بعض المشاريع على بعض الشركات "الوطنية" - زعموا - حيث الأجدر أن تسمى مشاريع "الشنطة المتدحرجة". تلك المشاريع التي تزحف نحو الاكتمال - سنين عجافاً وسماناً - اكتمالاً تخرج لنا مشاريع "متشققة" هي للهدم أجدر منها للبقاء.
لابد لنا من السير في ركاب العصر بما يتوافق مع هويتنا وقيمنا. لابد من تسخير الإمكانات العصرية لخدمة وطننا وأنفسنا وأبنائنا. لابد من التعلم و الإبداع والإصرار على تسخير كل جديد لكي نسهل على أنفسنا كثيراً من العناء التي فرضته تلك "البيروقراطية" القاتلة لكل إبداع وتطور, ويجعل حياتنا "محوسبةً" بحيث ينهي المراجع معاملاته بضغطة زر من منزله.

http://www.alwatan.com.sa/news/ad2.a...no=2523&id=857