إذا كنت في بروكسل وتبحث عن محل للوجبات الخفيفة أو كما يسميه البلجيكيون “سناك”kcanS فستجد غالبا أصحابه من المسلمين، أما إذا فكرت في شراء ملابس فستجدها أيضا عند أقرانهم في شارع

“برابند” أكثر شوارع بروكسل حيوية، ويسيطر عليه المسلمون الذين تم الاعتراف بدينهم من قبل الحكومة البلجيكية قبل أكثر من نصف قرن دون أن يحدث الأمر قدرا من الضجيج والصخب على غرار ما حدث في بلدان أوروبية أخرى.

واستطاع مسلمو بلجيكا خلال العقود الماضية رسم خريطة لنفوذهم الاقتصادي في البلاد، بجوار الأقليات الأخرى. وهو ما جعل هناك شبكة مصالح اقتصادية مع الدولة، وساعدتهم في ذلك التركيبة الجغرافية والسياسية لبلجيكا.


فحين قرر البلجيكيون تعزيز الحكم اللامركزي في بلادهم أوائل التسعينيات من القرن العشرين وذلك بتقسيمها إلى ثلاث مقاطعات تتمتع بالاستقلال الذاتي، من بينها العاصمة بروكسل؛ كان الوجود الإسلامي الكثيف في بعض مدنها أحد العوامل التي لعبت دوراً في صياغة ملامح هذا التقسيم، خصوصاً من الناحية الاقتصادية، حيث يشكل المسلمون مصدر قوة وضعف في الوقت نفسه.

لقد انطلق التقسيم على قاعدة الصراع بين الناطقين بالهولندية في مقاطعات الشمال أو ما يعرف ب “فلاندرا”، والناطقين بالفرنسية في مقاطعات الجنوب المسماة ب “والونيا”، لكن بروز العاصمة بروكسل الموجودة جغرافيا في فلاندرا، والتي ينطق معظم سكانها بالفرنسية (80%)، والمتعددة ثقافيا وإثنيا، حيث يشكل المسلمون ربع سكانها (25%) جعل هذا التقسيم ينحو منحى الثلاثية بدل الثنائية، محولا البلاد بذلك إلى فيدرالية مكونة من ثلاث دويلات بدلا من الدويلتين المفترضتين.

عنصر تباعد

وقد شكل الوجود الإسلامي - المتمثل فيما يزيد على نصف مليون نسمة من مجموع عشرة ملايين بلجيكي طبقا لإحصاءات رسمية - عنصر تباعد بين الدويلتين “فلاندرا” و”والونيا”، حيث سعت كل منهما إلى التخلص من أكبر نسبة من هؤلاء العمال الفقراء وهو ما شكل عنصر تميز وهوية خاصة للعاصمة بروكسل التي لم تؤسس على قاعدة قومية، ولم تعد منذ أن اتخذها الاتحاد الأوروبي عاصمة له عابئة بالأصول القومية أو الثقافية أو العرقية، ويعتقد أهلها بأن استمرار ازدهارها يرتكز بالأساس على مواصلتها دور الاستقطاب السياسي والاقتصادي والسياحي.

وجد المسلمون في “بروكسل” مناخا ملائما لتطوير قدراتهم الاقتصادية وإطلاق العديد من مبادراتهم التجارية الطموحة التي ارتبطت إلى حد كبير بطبيعة المدينة الجديدة، بعد اتخاذها عاصمة للاتحاد الأوروبي، كما حاولت استثمار هذه الطبيعة لنيل حصة من تجارة التوزيع على الصعيد الأوروبي التي ازدهرت في العاصمة البلجيكية في العقود الأخيرة.

وتهيمن على الشارع الإسلامي في بروكسل الشمالية، أجواء ثقافية وحضارية إسلامية، تذكرنا بتلك السائدة في أسواق القاهرة واسطنبول ودمشق وطهران وكراتشي ولاهور وفاس وغيرها من المدن الإسلامية، والرواج الاقتصادي لا يقل عن مستوى الرواج السائد في الأسواق البلجيكية الأخرى. وبحسب تأكيدات بعض التجار المسلمين في شارع “برابند” فقد تمكن بعضهم من تطوير رأسماله إلى حد يفوق كل التقديرات، فيما تشير بعض المصادر غير الرسمية إلى أن إجمالي المعاملات في هذا الشارع قد يصل إلى “مليار دولار”.

وتعتبر أجواء شهر رمضان في العاصمة البلجيكية بروكسل، الأقرب إلى أجواء الشهر المبارك السائدة في مدن العالم العربي والإسلامي، وذلك مقارنة بأي عاصمة أوروبية وغربية أخرى، توجد بها أقليات مسلمة.

ويرجع تميز أجواء بروكسل الرمضانية عن سواها من المدن الأوروبية الأخرى إلى غلبة عدد المسلمين في بعض الأحياء، خصوصا “مولنبييك” و”سكاربييك” و”أندرلخت”، وهو ما مكنهم من فرض مظاهر حياتهم، اجتماعيا وثقافيا ودينيا، على نمط الحياة العامة وطريقة حياة الأغلبية.

تتمتع بلجيكا بعلاقات تقليدية حسنة مع مسلميها، وتتميز في الوقت ذاته بأنها في مقدمة دول أوروبا التي أبدت استعداداً للاعتراف بالدين الإسلامي. وكانت رابطة العالم الإسلامي قد أسست في بروكسل المركز الثقافي الإسلامي في العام ،1969 وحضر المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود حفل الافتتاح إلى جانب ممثلين عن الحكومة البلجيكية.

وفي العام 1977 تشكلت الجمعية الإسلامية للثقافة والدين بمبادرة من ناشطين من المغاربة والأتراك ومعتنقي الدين الإسلامي من البلجيكيين . وإلى جانب حضور منظمة “ملي غوروش” الإسلامية التركية، ذات الامتداد الواسع في أوروبا، فإن رئاسة الشؤون الدينية “ديانت أشلري” التابعة للحكومة التركية، كانت تقوم بدور مواز انطلاقا من ملحقها في السفارة التركية ببروكسل، حتى أصبحت البلاد تحتضن أكثر من ثلاثمائة مسجد ومصل تشكل شبكة فعالة تتمحور حولها الحياة اليومية لمسلمي هذا البلد الأوروبي المتميز، وتتفرع منها نشاطات التربية والتعليم والثقافة والرعاية الاجتماعية.

إنجازات رائعة

تفرد التعليم الإسلامي في بلجيكا على المستوى الأوروبي، إذ يجري تدريس الدين الإسلامي لكل المراحل في المدارس العامة منذ ثلاثة عقود وتتاح للتلاميذ المسلمين فرصة تعلم مبادئ دينهم لمدة ساعتين أسبوعيا، وذلك باللغة الفرنسية في إقليم والونيا وباللغة الهولندية في إقليم فلاندرا، وبدورها تتولى الدولة دفع رواتب مدرسي الدين الإسلامي الذين يزيد عددهم على سبعمائة معلم ومعلمة.

مشاركة مسلمي بلجيكا في الحياة السياسية حققت إنجازات رائعة، فبعد أعوام قليلة من وصول طلائع النواب المسلمين للمقاعد النيابية المحلية، أصبح مرشحوهم أكثر قدرة على حصد أصوات الناخبين بسلوكهم وأدائهم النموذجي، ولا تبدو حالة النائب “شكري محاسين”، وهو مغربي ينتمي إلى الجيل الثاني من أبناء المهاجرين، فريدة من نوعها، فمحاسين كان أول “أجنبي” يفوز بمقعد في البرلمان الفلمنكي عام ،1994 وفي 13 يونيو/حزيران 1999 جاءت المفاجأة بفوزه للمرة الثانية بعدد ساحق من الأصوات بلغ 13150 صوتا، ولم يكن “شكري محاسين” وحده في الواجهة، فقد حصدت المرشحة من أصل مغربي “فاطمة لبالي” أكثر من عشرة آلاف صوت، لتحتل بموجبها مقعدا في البرلمان ذاته.

أبرز المشكلات التي تواجه مسلمي بلجيكا تتعلق بالاندماج في المجتمع مع الرغبة القوية في المحافظة على خصائص الهوية، فضلا عن مواجهة الاعتداءات العنصرية، خصوصا بعد أحداث سبتمبر/ايلول.