يقول رسول الله صلى عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم بسنده عن أنس رضي الله عنه: “ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”.

في هذا التوجيه النبوي الكريم يؤكد الرسول صلوات الله وسلامه عليه قيمة حضارية إسلامية وهي الغرس والزرع لإفادة الإنسان والحيوان والبيئة.


ثواب ممتد

ومنزلة الزرع والغرس تتضح لنا بصورة رائعة وعظيمة حين نعلم أن مثوبة الزرع أو الغرس ممتدة إلى ما بعد الموت، وصدقة جارية إلى يوم القيامة، ففي رواية أخرى للحديث: “.. فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له، أي ما أكل منه، صدقة إلى يوم القيامة”.

إن ثواب ما يغرسه الإنسان من زرع موصول ومستمر ما دام الزرع مأكولا منه، حتى ولو انتقل إلى ملك غيره، وحتى لو مات الغارس أو الزارع.

يقول الدكتور هاشم: لقد أخذ صاحب هذا العمل تلك المنزلة من الأجر والمثوبة، لأنه بهذا شارك في عمارة الحياة، فلم يعش لنفسه فقط، وإنما عمل لمصلحة مجتمعه، وقدم لنماء الخير مستطاعه، وسواء حصل من زرع على شيء أو لم يحصل، سواء عاش ليأكل منه أو لا. روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلا مر به وهو يغرس غرسا بدمشق، فقال له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا تعجل عليّ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من غرس غرسا لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله إلا كان له به صدقة”، وفي رواية أخرى قال: “أتغرس هذه وأنت شيخ كبير، وهذه لا تطعم إلا في كذا وكذا عاما؟ فقال: ما عليّ أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيري؟”.

ولله در القائل: “غرس من قبلنا فأكلنا ونغرس ليأكل من بعدنا”.


من أعمال البر

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفع بقيمة الزرع والغرس حتى يجعل منه عملا خالصا من أعمال البر، بحيث يجعل منه غاية في حد ذاته، لا وسيلة من وسائل الكسب والمعاش فحسب، يقول عليه الصلاة والسلام: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها” و”الفسيلة” هي ما يقطع من صغار النخلة، أو يجتث من الأرض.

وهنا فارق كبير بين المسلم الذي يزرع ويغرس ابتغاء الأجر والثواب من الله وغير المسلم الذي يقوم بالعمل نفسه، فكما يقول العلماء: عندما يغرس المسلم ابتغاء رضوان الله يحظى بالأجر والثواب، لأن أعمال البر في الدنيا يثاب عليها المسلم في الآخرة، أما غير المسلم، فقد وقف عدم إيمانه عائقا في طريق الاستفادة الأخروية. ولكن: هل يختص الثواب بمن يباشر الغرس أو الزرع بيده؟

يقول العلماء: النية هي أساس الثواب والعقاب: “إنما الأعمال بالنيات” فلا يختص بحصول الثواب أن يباشر الإنسان العمل بيده بل يناله من استأجر لمثل هذا العمل أحدا، وإذا وجدت نية الغرس أو الزرع عند متعاطي الزرع أو الغرس ولو كان ملكاً لغيره فإن الغارس أو الزارع ينال الثواب أيضاً فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن جابر أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام دخل على أم مبشر الأنصارية في نخل لها فقال لها: من غرس هذا النخيل أمسلم أم كافر؟ فقالت: بل مسلم، فقال: “لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له به صدقة”.


منفعة وجمال

الزرع والغرس عنصرين مهمين جاء النص عليهما في القرآن الكريم وهما:

العنصر الأول: عنصر المنفعة، كما في قوله تعالى: “كلوا من ثمره إذا أثمر” وقوله تعالى: “فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه أَنا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً ثُم شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وقضبا وَزَيْتُوناً وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً متَاعاً لكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ” ففي هذه الآيات الكريمة جعل في النباتات عنصر المتاع، أي المنفعة للناس ولأنعامهم التي تخدمهم أيضا.

والعنصر الثاني: هو عنصر الجمال، وهذا مما قد يتصور بعض الناس أن الإسلام لم يهتم به، ولا يجعل له اعتبارا، وهو وهم لا أساس له في القرآن ولا في السنة، فإن الله تعالى جميل يحب الجمال، كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والجانب الجمالي في الزرع ليس من صنع حضارة الغرب كما يظن أو يتوهم المنبهرون بالحضارة الغربية، بل هو من صنع القرآن الكريم، الذي أوضح ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل، كما في قوله تعالى: “أَمنْ خَلَقَ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم منَ السمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ما كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ معَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ” وعلينا أن ننظر إلى دلالات هذا التعبير القرآني في (حدائق ذات بهجة) أي ذات حسن وجمال، تبهج النفس والخاطر، وتسر العين والقلب.

وقوله تعالى: “وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ” والبهيج هو الحسن الجميل.

وقوله عز وجل: “وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ”.

وقال الإمام القرطبي في تفسيره: الزراعة من فروض الكفاية، فيجب على الإمام (ولي الأمر) أن يجبر الناس عليها، وما كان في معناها من غرس الأشجار.


عطاء لا ينضب

والتوجيهات النبوية الكريمة التي تحث على الزرع والتشجير تغرس في المسلم، كما يقول الدكتور اسماعيل الدفتار أستاذ السنة النبوية بجامعة الأزهر، فضيلة من أحسن الفضائل وأكثرها أجرا عند الله، فالحديث الذي معنا “ما من مسلم يغرس غرسا،” وحديث: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة” يحضان حضا واضحا على الغرس والتشجير، وهذان الحديثان يجسدان الطبيعة المنتجة والخيرة للإنسان المسلم، فهو بفطرته عامل معطاء للحياة، كالنبع الفياض، لا ينضب ولا ينقطع، حتى إنه ليظل يعطي ويعمل، حتى تلفظ الحياة آخر أنفاسها، فلو أن الساعة توشك أن تقوم، لظل يغرس ويزرع، وهو لن يأكل من ثمر زرعه، ولا أحد غيره سيأكل منه، لأن الساعة تدق طبولها، أو ينفخ في صورها، فالعمل هنا يؤدى لذات العمل، لأنه ضرب من العبادة، والقيام بحق الخلافة لله في الأرض إلى آخر رمق.

ولقد بين لنا العلم الحديث القيمة الحضارية والعلمية للزرع والتشجير اللذين جاء الحض عليهما في جملة من الأحاديث النبوية الكريمة، فإلى جانب الثمر والظل وتخفيف الحرارة هناك فوائد ومنافع عظيمة للتشجير مثل المساعدة في حفظ التوازن البيئي، وامتصاص الضوضاء، ومقاومة الآثار الضارة للتصنيع على البيئة أو للتخفيف منها على الأقل.