لم يكتف صلاح الدين “ببسط العدل ونشر الأمن” في بلاده حتى غدا الناس يتنقلون من مكان إلى آخر أثناء الليل دون أن يشعروا بخوف أو قلق، وإنما حرص أيضاً على إقامة عدد كبير من المنشآت العامة والمرافق بقصد تيسير أسباب الحياة لرعاياه. ويذكر ابن جبير أن صلاح الدين أمر بإنشاء عدد من المحاضر أو الكتاتيب وخصص لها المعلمين لتعليم الأيتام وأبناء الفقراء، وخصص لهم جميعاً الجراية الكافية. هذا بالإضافة إلى عديد المدارس التي أنشأها صلاح الدين وخصص لها المدرسين والأوقاف والأرزاق للإنفاق عليها وعلى طلبة العلم فيها.

المستشفى الكبير

ومن مآثر صلاح الدين أيضاً المارستان أو المستشفى الكبير الذي شاهده ابن جبير في القاهرة وقال عنه إنه “قصر من القصور الرائقة حسناً واتساعاً”. وقد رتبت في غرف ذلك المستشفى أسرة مفروشة فرشاً كاملاً نظيفاً بحيث يكون لكل مريض فراشه الخاص به، وخصص للمستشفى مجموعة من الأطباء يتفقدون أحوال المرضى، ويصفون لهم العلاج، ويصرفون لهم الدواء من صيدلية كبيرة ملحقة بالمستشفى بها الأدوية “على اختلاف أنواعها”. ويذكر ابن جبير أن هذا المستشفى كان ينقسم إلى ثلاثة أقسام، قسم خاص بالرجال وقسم خاص بالنساء “ولهن أيضاً من يكفلهن”، وقسم ثالث خاص بالأمراض العقلية. وقد لوحظ في القسم الأخير تشديد الحراسة عليه حتى أن نوافذه كانت من الحديد حتى لا يتمكن مجنون من الهرب. وكان صلاح الدين نفسه “يتطلع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال، ويؤكد الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد”.

وشمل صلاح الدين المغاربة بعطفه ورعايته، فخصص لهم جامع أحمد بن طولون يقيمون فيه ويعقدون حلقات الدرس بين رحابه الواسعة، كما أجرى عليهم الأرزاق، فخصص إنساناً أميناً من قبله لتوزيع الطعام في كل يوم على “أبناء السبيل من المغاربة”. فإذا عجزت الأوقاف المخصصة لذلك الغرض عن الوفاء بالغرض، فإنه نبه على الموظفين المختصين أن يأخذوا ما يلزم “من صلب ماله”. وقد روى بعض هؤلاء المغاربة لابن جبير أن السلطان صلاح الدين ترك لهم حرية واسعة بحيث لم يسمح لأحد بالتدخل في خواص أمورهم “وجعل أحكامهم إليهم، ولم يجعل يداً لأحد عليهم”. وهكذا اختار المغاربة بمصر أحدهم ليكون رئيساً عليهم “يمتثلون أمره ويتحاكمون في طوارئ أمورهم عنده.. فتفرغوا لعبادة ربهم ووجدوا من فضل السلطان أفضل معين على الخير الذي هم بسبيله”. هذا عن الأغراب الموجودين في دولة صلاح الدين، أما رعاياه من أهل البلاد فقد وصفهم ابن جبير بأنهم “في نهاية من الترفيه واتساع الأحوال”.

وخلاصة القول إن سياسة الجهاد التي اتبعها صلاح الدين، وما تتطلبه هذه السياسة من جهود متواصلة وإمكانات ضخمة ومزيد من الوقت والمال.. كل ذلك لم يشغل صلاح الدين عن أن يقيم دعائم حكومة عادلة تعمل لمصلحة البلاد والعباد. وكان لصلاح الدين في أخلاقه القويمة خير سياج يضمن صلاح حكومته وعدم انحرافها، ويتضح ذلك بدراسة أخلاق صلاح الدين نفسه في شيء من التفصيل لنرى صلاح الدين في صورة الإنسان المستقيم مثلما رأيناه في صورة البطل الشجاع المحارب.

شجاعة فائقة

اتصف صلاح الدين بالشجاعة الفائقة التي شهد له بها الأعداء قبل الأصدقاء. ومن أمثلة شجاعة صلاح الدين أنه بعد أن استولى على حصن كوكب سنة 1188 (584ه)، سمح للعسكر المصري بالانصراف للراحة، وكان ذلك العسكر بقيادة أخيه الملك العادل، فقرر صلاح الدين أن يودعهم حتى عسقلان ثم يتفقد البلاد الساحلية حتى عكّا. ولم يوافق المقربون من صلاح الدين على تلك الخطة، لأنه بعد أن يودع العسكر المصري في عسقلان سيبقى هو في شرذمة قليلة من الجند، فكيف يأمن على نفسه أن يتنقل من مدينة إلى أخرى من مدن الساحل ليتفقدها وهو من دون جيش يحميه، لا سيما وأن جموع الصليبيين كانت كبيرة في صور. لذلك أشار مرافقو صلاح الدين -ومنهم القاضي ابن شدّاد- عليه بألا يفعل ذلك، واعتبروا عمله “مخاطرة عظيمة”، ولكنه أصر على رأيه ومضى في طريقه إلى عكّا بحذاء الساحل بعد أن صرف العسكر المصري دون أن يخاف عدواً أو يخشى خطراً. وكان الفصل شتاءً والبرد قارساً والبحر هائجاً، فنظر صلاح الدين إلى أمواج البحر الهادرة، ثم التفت إلى القاضي ابن شدّاد وقال: “أما أحكي لك شيئاً في نفسي! إنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد (بين أبنائه) وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائره، وأتبعتهم (الصليبيين) فيها، حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت”.

ويروي ابن شدّاد أنه حدث أثناء حصار الصليبيين لعكّا أن وصلت في البحر في ليلة واحدة أكثر من سبعين مركباً صليبياً، وهو يعدهم مركباً بعد آخر من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، ومع ذلك، فإن صلاح الدين كان “لا يزداد إلّا قوة نفس”. وفي ذلك الموضوع قال ابن شدّاد، وهو رفيق صلاح الدين وملازمه في معظم حركاته وسكناته: “ما رأيته استكثر العدو أصلاً، ولا استعظم أمرهم قط..”. وقد حدث في بعض المواقع التي دارت بين صلاح الدين والصليبيين في مرج عكّا أن هزم المسلمون وسقط علمهم على الأرض، ومع ذلك، ظل صلاح الدين “ثابت القدم في نفر يسير، حتى انحاز إلى الجبل يجمع الناس، ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى نصر عسكر المسلمين على العدو في ذلك اليوم”.