أنزل الله رسالة الهداية للبشر وألزم ذاته سبحانه وتعالى بحفظها بقوله: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” وكلما أراد أعداؤه الكيد له ومحاصرة المد الإسلامي زاد واتسع مداه.. ومن هنا وصلت دعوة الحق إلى دولة جنوب إفريقيا، فبعد أن فرض الهولنديون سيطرتهم على جزر إندونيسيا وشبه جزيرة الملايو، واجهوا مقاومة باسلة من أهلها المسلمين، فحملوا 50 من قادتها الأبطال كسجناء إلى أقصى جنوب القارة السوداء وكان بينهم الشيخ يوسف شقيق ملك جاوا وزعيم المقاومة، وفي الوقت ذاته استقدمت بريطانيا -بطريق السخرة - مجموعات العمال من شبه القارة الهندية وألقت بهم تحت السياط في مستعمراتها حول كيب تاون، وكان أكثرهم من المسلمين، وبعد استقرارهم هناك بدأوا في إظهار تعاليم دينهم من خلال سلوكهم وكلماتهم التي سرت بين الجماعات المستضعفة التي تعاني القهر والتفرقة العنصرية، وراقت لهم كالماء العذب في جوف الظمآن.
بنيت المئات من المدارس الإسلامية بجهود ذاتية، ويلتحق الطلاب المسلمون بهذه المدارس في المساء، كما يوجد عدد كبير من مدارس تحفيظ القرآن الكريم، إلا أنها تعاني ضعف مستوى المدرسين، وقلة الكتب المدرسية ويوجد معهد للشريعة الإسلامية في منطقة الكيب، وقد تأسس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة (دربان وست فيل) ويصدر المسلمون صحيفتين يوميتين هما: (مسلم نيوز) و(جريدة القلم)، ويمثل المجلس الإسلامي الهيئة الوطنية لجميع مسلمي جنوب إفريقيا.
انفتاح عربي متأخر
قد لا يعرف بعض المسلمين الكثير عن الأقلية المسلمة في جنوب إفريقيا، ولا عن توقف حدود المعرفة العامة قبل انتهاء النظام العنصري عند الزعيم الأسود السجين نيلسون مانديلا وحركة التحرر، ومناظرات الشيخ أحمد ديدات الجنوب إفريقي الموطن، الهندي الأصل، وكيف حاور القساوسة، وأشرطة الفيديو التي لم تكن تخلو منها مكتبة إسلامية أو بيت مسلم، وتفرد الحركة الإسلامية هناك وعدم تأثرها بالفكر الحركي العربي في نشأتها وتطورها، الأمر الذي جعل العمل الإسلامي في جنوب افريقيا ينصب كلياً على الإطار الدعوي، من تشييد مساجد ومدارس إسلامية ونشاط دعوي وكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم وعمل تطوعي وإغاثي، وأسهم في ذلك عدم وجود سياحة عربية أو إسلامية إلى جنوب إفريقيا في ظل النظام العنصري، بل وبعد سقوطه، والسياحة العربية إلى هذه الدولة لم تبدأ إلا متأخرة جداً، باستثناء تأثر بعض الشخصيات التي تُعدّ على أصابع اليد الواحدة بالفكر الحركي في مصر، بسبب دراستهم في الأزهر، أو قراءاتهم، وإن زاد عدد الحركيين في بداية ثمانينات القرن الماضي الميلادي إلى ثمانية أشخاص، وشكلوا بعد ذلك “اتحاد الشباب المسلم”.
وكانت المرجعية الغالبة على المسلمين في جنوب إفريقيا من الديوبندية أو البريلوية، نظراً لأن معظم المسلمين هناك ينحدرون من أصول هندية أو مالوية، وهذا يعني عدم التأثر بالخصومات المذهبية أو الحركية أو القومية أو غيرها التي تعاني منها الجاليات المسلمة في أوروبا والغرب بصفة عامة.
وصل الامتداد العربي الشرعي إلى المسلمين في جنوب افريقيا متأخرا، وعندما بلغهم وجد لديهم مؤسساتهم الدعوية وجوامعهم، ومراكزهم الإسلامية، ومدارسهم ومناهجهم وصحفهم ومجلاتهم، بل ومطابع المصحف هناك، حيث توجد مطبعتان للمصحف، ومن ثم كان تأثيره محدودا بحدود العلم الشرعي دون وصاية أو تبعية أو محاولة التأثير في هذه الجالية.
المنظمة الإسلامية التعليمية
بدأ العمل المؤسسي للجالية الإسلامية في جنوب إفريقيا مبكراً جداً، حتى في ظل النظام العنصري، فقد شيد المسلمون المساجد على أحدث طراز، بل قلما تجد مسجداً أو جامعاً هناك إلا وكان على أحدث طراز معماري إسلامي، ومجهزا بأحدث الأثاث، فالعناية بالمساجد والمدارس الإسلامية والمؤسسات الدعوية من أبرز المميزات الفريدة للأقلية المسلمة هناك وحتى في الأحياء الفقيرة تجد المساجد الكبرى، وقد أسست هناك العديد من الجمعيات المؤثرة بين الجالية منها (المنظمة التعليمية في جنوب إفريقيا) التي أُنشئت عام 1985 لتقدم خدماتها للمسلمين في العالم وليس في جنوب إفريقيا وحدها، وامتد نشاطها إلى استراليا والولايات المتحدة وإنجلترا وكثير من دول القارة الأوروبية، ولا يقتصر نشاطها على التعليم فقط، بل لها دورها الاجتماعي من خلال برامج رعاية الفقراء واحتضان المسلمين الجدد الذين اعتنقوا الإسلام حديثا، وقد بدأت (المنظمة الإسلامية التعليمية) نشاطها بإنشاء أربع مدارس تعليمية وصل عددها في عام 2005 إلى (65) مدرسة ومركزاً تعليمياً، ومن أعمالها: إعداد المناهج الدراسية الإسلامية، وتدريب المعلمين والمعلمات على طرق التدريس المتطورة، والتوجيه والإشراف على المدارس الإسلامية الخاصة بالمنظمة، وطبع الكتب الإسلامية باللغات الإفريقية مثل لغة “الزولو”، والتعاون مع وزارة التعليم، وبعض المدارس الحكومية في تنفيذ منهج المنظمة، وإنشاء المدارس الإسلامية المسائية للطلاب والطالبات المسلمين المسجلين بالمدارس الحكومية، نظراً لأن هذه المدارس ليست بها دراسات إسلامية.
وقد نجحت المنظمة في الحصول على البرامج التعليمية المختلفة، ودعم من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة والعلوم (ايسيسكو) بالمغرب ومن الأزهر بمصر، واعتمدت المنظمة في عملها على إنشاء أوقاف خاصة بها، للإنفاق على المدارس والمعاهد التعليمية، فقامت بإنشاء محال تجارية صغيرة بجوار المساجد يعمل فيها المسلمون الأفارقة الذين اعتنقوا الإسلام لمساعدتهم في حياتهم اليومية، كما بدأت المنظمة في إقامة مشاريع زراعية وتنموية للإنفاق على شؤون الدعوة.
اتحاد الشباب
وهناك أيضا اتحاد الشباب المسلم الذي أُنشئ في منتصف الثمانينات ليقدم البرامج الخاصة بالشباب في المدارس والمعاهد المتوسطة والعليا، وفي بداية التسعينات من القرن الميلادي المنصرم أنشئت (جمعية اتحاد علماء المسلمين في جنوب إفريقيا) وتنضوي تحتها معظم المؤسسات والجمعيات من الرموز الدعوية بشتى تياراتهم ومذاهبهم العقائدية والفكرية، مما شكل قوة إسلامية لدى الحكومة من خلال اتحاد أهداف المسلمين العامة ومطالبهم، وفي بداية القرن الحادي والعشرين بدأ الاتصال القوي بين المسلمين في جنوب إفريقيا والعالم الإسلامي، بعد أن كانت اتصالاتهم مركزة في اتجاه الهند وماليزيا، وأخذت بعض الحركات الإسلامية تتجه إلى هناك، فظهرت النقشبندية التي كان لها أتباع قليلون، بدعم من الجمعيات الإسلامية التركية، وظهر الاتجاه السلفي الذي يهتم بالعلم الشرعي.
انخراط المسلمين في جنوب إفريقيا في الحياة هناك، واندماجهم مع المجتمع سواء كانوا من السود الأغلبية أو من (البيض) جعلهم جزءاً من نسيج المجتمع الجنوب إفريقي، عكس الجاليات المسلمة في أوروبا وأمريكا، التي ذاب بعضها تماماً في المجتمع، كما حدث للمهاجرين الأوائل، أو العزلة عن المجتمعات الأوروبية خوفاً من الذوبان، والجالية المسلمة في جنوب إفريقيا يصل تعدادها إلى المليون نسمة من أصل (44) مليوناً هم جميع سكان البلاد.
ولذلك لا تجد المسلمين في جنوب إفريقيا يطلبون مساعدات أو معونات مادية من العالم الإسلامي بل هم يقدمون هذه المعونات، الأمر الذي انعكس على وضعية الجالية وقراراتها، وتميز نشاطها، وعدم تبعيتها لتيار من التيارات أو عدم اختراقها من الخارج
مواقع النشر (المفضلة)