قل لي ماذا تقدم .. أقل لك من أنت
تقدر قيمة الإنسان بقدر عطائه وتفاعله الإيجابي مع المجتمع والعالم من حوله، فقد يكون هذا العطاء روحيا، وقد يكون علميا، وقد يكون أدبيا إبداعيا أو غير ذلك من صور الإسهام في دفع عجلة الحياة لكي تسير بشكل إيجابي يجلب الخير للبشرية، ويثمر سعادة لها، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالعمل وتعمير الأرض، وقال: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وجاء أيضاً: (خير الناس أنفعهم للناس)، لذا يمكن القول إن إنتاج الإنسان، وثمرة حراكه في الحياة هو ما يضع هذا الشخص في ميزان الإنسانية ويحدد من هو، وربما يسجله في سجلات الحاضرين حتى بعد موته، أو يسقط اسمه من قوائم الأحياء حتى لو كان حيا يمشي على قدميه فالأفراد من ذوي الهمم العالية والمتفوقين ذهنيا أو المبدعون هم الذين يسجلون حضورا دائما في حياة البشرية سواء كانوا أحياء أو أمواتا.
قد تمتد كلمات صادقة نابعة من الأعماق تدعو إلى خير الناس ورفاههم وراحتهم تتجاوز ليس آفاق المجتمع الحاضر وحسب بل تصل إلى متطلبات الأمم القادمة والتي غالبا ما يستشف أولو الألباب ضروراتها قبل مجيئها حيث ينظرون إلى ما وراء الأفق والحجب ببصيرتهم وعمق إحساسهم فتتلاءم تلك العطاءات مع أكثر من جيل وحقبة.
فالإنسان بعطائه وإخلاصه لمجتمعه ومحيطه وعالمه، فالتطور في حياة المجتمعات، لم يكن دائما يحتاج إلى العبقريات الفذة فقط، بل كان يحتاج إلى تحرك ذوي الهمم والإخلاص والهم الجماعي، وتوسيع قاعدة ال (أنا) لتصبح (نحن) والإبداع الفكري والإنساني والاجتماعي والفني موجود على الدوام، فقط الأمر يتوقف على مدى استيعاب الناس له وتسجيله لصالح أهله، وتكريسه للارتقاء بواقع الحال، وتجسيده على شكل حاضرة فريدة تفيد الأجيال والأمم الأخرى، الملاحظ لواقع الناس اليوم يجد الكثيرين منهم يعتقدون أن قيمة الإنسان في ما يملك أو في مظهره أو مكانته أيا كان نوعها بغض النظر عن العائد الذي يعود من وجوده في الحياة على الإنسانية، التي قد تتسع دائرتها وفقا لاتساع عطاء هذا الشخص، وقد تضيق في حدود محيطه الضيق والذي أشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، بأن من يفلح في ذلك فهو خير الناس، أي من يكون خيرهم لأهله.
وأعتقد جازما أن رصيد الإنسان من العطاء والمردود الإيجابي على المجتمع أيا كان طول قطر دائرة هذا المجتمع الذي يحدد ماهية هذا الشخص وبالتالي قيمته وماذا يساوي، وما مساحته التي يحتلها، ليس في نفوس الناس وحسب بل أيضا في سجلات تاريخ أقرب الناس إليه. وفي عصرنا الحاضر تتشعب العطاءات وتتنوع، وتكثر فرصها وقنواتها، ولا يخفق فيها إلا من أبى، ومن يريد أن يقدم للبشرية شيئا فلن يعجز، طالما أن لديه ما يقدمه، فالوسائل صارت أكثر توفرا، والوصول إلى أطراف العالم أصبح بين طرفة عين وانتباهتها، والإمكانيات صارت وفرة من ذي قبل، فقط الاستعداد النفسي هو المحك، وحرص الناس على أن يحجزوا لأنفسهم مقاعد متقدمة في الدنيا والآخرة هي صراع النفس الأزلي.
هذا الأمر ليس جديدا، بل جاء في الحديث (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، ومن يقدم للآخرين ما ينفعهم من مختلف منافع الحياة، فسوف يضيف إلى ابنه الذي تدعو له آلاف الأكف التي تدعو له في حياته وقبل مماته. فأين أنت أخي القارئ، وأختي القارئة من هذه المعادلة؟ وماذا قدمنا جميعا لغيرنا، فلا ينحصر التقديم في الاختراعات والاكتشافات الخارقة وحدها، ولكن المعلم يستطيع أن يقدم من خلال وضع بصمات إنسانية إيجابية تربوية على النشء من خلال كلماته التي يبثها على مسامعهم كل يوم، والكاتب يستطيع أن يسخر قلمه في ما يفيد الناس حاضرهم وقادمهم على حد سواء، وكذلك الأديب والطبيب والرياضي وغيرهم من أهل الإبداع بشتى أنواعه. أين نقف نحن يا ترى من هذه المنعطفات، وكيف نسير في حياتنا ونحن محاطون بأشواكها وثمارها ومنافعها، وكيف ننظر لنصيب الآخرين من جهودنا التي نبذلها كل يوم، هل هي خاصة بنا فقط، أم لغيرنا فيها نصيب بالقدر الذي يجعل لنا مكانة في صفحات الإنسانية؟! فلينظر كل منا ماذا قدم للعالم الصغير والكبير فسيدرك من هو وماذا يساوي في هذه الحياة.
مواقع النشر (المفضلة)