رضي الله عنه اختصر حياته في جنديته تحت لواء الإسلام، فقد كان رضوان الله عليه فارسا مقاتلا، غلبت عليه صفة القتال في سبيل الله على أي صفة أخرى، وكان من المبكرين إلى الإسلام، فكان أحد السبعة الأوائل دخولا إلى الدين الجديد، والتصديق بالرسول الكريم.
هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك البهراني، حالف أبوه كندة فسمي المقداد الكندي، وكان هو حليفا للأسود بن عبد يغوث الزهري، وكان الأسود قد تبناه، فلذلك قيل له المقداد بن الأسود، وقيل: كان آدم طويلاً، ذا بطن، أشعر الرأس، ذا عينين واسعتين، مقرون الحاجبين، مهيبا، ولم يكن أحد يعرف أن هذا الذي جاء إلى مكة طريدا، وتبناه واحد من كبرائها هو الأسود بن عبد يغوث، وتسمى باسمه، سيكون له شأن ما بعده شأن في قيام عز الإسلام وتثبيت قوة المسلمين، وهو الذي أصبح بفضل الله ومنته واحدا من الأوائل الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ورسالته وبربه، بل ويتزوج وهو المولى القرشية الهاشمية بنت عم الرسول صلى الله عليه وسلم ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب.

أسلم شابا ولم يكن تجاوز الخامسة العشرين من عمره، وكان سادسا في الإسلام حسب بعض الروايات، هاجر الهجرتين، فقد هاجر أولا إلى أرض الحبشة، ثم عاد إلى مكة، فلم يقدر على الهجرة إلى المدينة لما هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقي إلى أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث في سرية، فلقوا جمعا من المشركين عليهم عكرمة بن أبي جهل، وكان المقداد وعتبة بن غزوان قد خرجا مع المشركين ليتوصلا إلى المسلمين، فتوافقت الطائفتان، ولم يكن قتال، فانحاز المقداد وعتبة إلى المسلمين، وأتم هجرته الثانية، وعاش تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، وواصل جهاده من بعده، وشهد فتح مصر.
وليس مصادفة أن تتعدد الروايات بأن المقداد هو أول من عدا به فرسه في سبيل الله، وظل يسعى إلى الجهاد إلى أن أصبح شيخا كبيرا، وقد عظم لحمه وتداعت عظامه، فيروي عنه أبو راشد الحبراني فيقول: وافيت المقداد فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص على تابوت من توابيت الصيارفة، قد أفضل عليها من عظمه، يريد الغزو، فقلت له: قد أعذر الله إليك، فقال: أبت علينا سورة البحوث، وقرأ: “انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” (التوبة 41).
وانظر إلى هذا المشهد الفريد الذي يرويه البخاري عن عبد الله بن مسعود، قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا، لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: “اذهب أنت وربك فقاتلا”، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره (يعني قوله).

أمنية واحدة

وكان رضي الله عنه من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقاتلا بالمعنى الحرفي للكلمة، وإن سأل النبي سأل عن أحكام القتال، وقد استفتى قائده الأعلى فقال: يا رسول الله إن لقيت كافرا فاقتتلنا، فضرب يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ بشجرة وقال أسلمت لله، أأقتله بعد أن قالها؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقتله”، قال: يا رسول الله فإنه طرح إحدى يدي، ثم قال بعدما قطعها، أقتله؟، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال”.
شجاع وفارس وحكيم، تجمعت أمنياته كلها في أمنية واحدة: أن يموت شهيدًا في سبيل الله، وكان هدفه الأعلى أن يعز الإسلام وأهله، ويروى أنه رضي الله عنه كان في سرية فحصرهم العدو، فعزم الأمير ألا يحشر أحد دابته، فحشر رجل دابته لم تبلغه العزيمة، فضربه، فرجع الرجل وهو يقول: ما رأيت كما لقيت اليوم قط، فمر المقداد فقال: ما شأنك؟ فذكر له قصته، فتقلد السيف وانطلق معه حتى انتهى إلى الأمير، فقال: أقده من نفسه فأقاده، فعفا الرجل، فرجع المقداد وهو يقول: لأموتن والإسلام عزيز.
واقعة تدل على أي نوعية من الرجال هو، يرويها مسلم في صحيحه فقد رأى رجلا جعل يمدح عثمان فعمد المقداد فجثا على ركبتيه وكان رجلا ضخما فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان ما شأنك؟، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب”.
ولا يعد المقداد رضي الله عنه من المكثرين في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعده ابن حزم في كتابه “أسماء الصحابة وما لكل واحد منهم من العدد” من أصحاب العشرات، وهو الرقم ثلاثة وسبعون في ترتيب الأكثر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى اثنين وأربعين حديثا، وروى له: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وله حديث في الصحيحين، وانفرد له مسلم بأربعة أحاديث، وكان من الفضلاء النجباء الكبار الخيار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه من الصحابة، علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وأبو أيوب الأنصاري، وزوجته ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وروى عنه من كبار التابعين: طارق بن شهاب، وعبيد الله بن عدي بن الخيار، وعبدالرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم.

أمر إلهي

وكان صلى الله عليه وسلم يحب المقداد حباً كبيراً، ويقربه منه، وجعله ضمن العشرة الذين كانوا معه في بيت واحد، عندما قسم المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة إلى عشرات، وجعل كل عشرة في بيت، قال المقداد: “لما نزلنا المدينة عشرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عشرة في كل بيت، قال: فكنت في العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لنا إلا شاة نتجزى لبنها”، بل إنه صلى الله عليه وسلم قال كما في مسند أحمد وفي سنن الترمذي عن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم، قيل: يا رسول الله سمهم لنا، قال: علي منهم، يقول ذلك ثلاثا وأبو ذر، والمقداد، وسلمان”.
وكره رضي الله عنه الإمارة، ولم يتلبس بها، ويروي الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، فيقول: بعث النبي صلى الله عليه وسلم المقداد بن الأسود رضي الله عنه على سرية، فلما قدم قال له: أبا معبد كيف وجدت الإمارة؟، قال: كنت أحمل وأوضع حتى رأيت بأن لي على القوم فضلا، قال: هو ذاك، فخذ، أو دع، قال: والذي بعثك بالحق لا أتأمر على اثنين أبدا، فكانوا يقولون تقدم فصل، فيأبى.
ومن جميل ما ذكر عن علاقته برسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرويه المقداد بنفسه كما جاء في صحيح مسلم فيقول: “أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس احد منهم يقبلنا فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “احتلبوا هذا اللبن بيننا”، قال: فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه، قال: فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان، قال: ثم يأتي المسجد فيصلي ثم يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي فقال: محمد يأتي الأنصار فيتحفونه ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني وعلمت انه ليس إليها سبيل، قال: ندمني الشيطان فقال ويحك ما صنعت أشربت شراب محمد فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك، وعلى شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النوم وأما صاحباي فناما، ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يسلم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا فرفع رأسه إلى السماء فقلت الآن يدعو علي فأهلك، فقال: “اللهم اطعم من أطعمني، واسق من أسقاني”، قال فعمدت إلى الشملة فشددتها على وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي حافلة، وإذا هن حفل كلهن فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتى علته رغوة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أشربتم شرابكم الليلة”، قال قلت: يا رسول الله اشرب، فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله اشرب، فشرب ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إحدى سوآتك يا مقداد”، فقلت يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا وفعلت كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما هذه إلا رحمة من الله أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها؟ قال: فقلت والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس”.
عاش الفتنة الكبرى في مهدها وحذر كثيرا من الوقوع في الفتن، ويروى أنه مر به رجل، فقال مخاطبًا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شاهدت، فأقبل عليه المقداد، وقال: ما يحمل أحدكم عليّ أن يتمنى مشهدًا غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟ والله لقد عاصر رسول الله أقوامًا، كبهم الله عز وجل على مناخرهم (أي: أنوفهم) في جهنم، أو لا تحمدون الله الذي جنبكم مثل بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم.
وعاش رضي الله عنه جوادًا كريمًا، وأوصى للحسن والحسين بستة وثلاثين ألفًا، ولأمهات المؤمنين لكل واحدة سبعة آلاف درهم، ومات في العام 33 الهجري، عن عمر ناهز السبعين سنة، وكان في أرض له بالجرف على ثلاثة أميال من المدينة المنورة، فحمل إليها، وصلى عليه الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودفن بالبقيع مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.