[align=center]عن الشعر والصعلكة مرة اخرى



كنت قد أوضحت في مناسبات سابقة أن اختيار الصعلكة كاسلوب ونمط حياة وثقافة في عراق الثمانينيات من القرن الماضي ، كان اختياراً واعياً وحرّاً عندنا نحن { جان دمو . كزار حنتوش . حسن النواب . نصيف الناصري } . كانت أشكالنا وأرديتنا وعزوفنا عن الزواج ومصادرنا الثقافية وموضوعات قصائدنا وطرق حيواتنا ، لا تشبه الآخرين . كان اختلافنا عن الجميع واضحاً في كل شيء . كلنا هربنا من الخدمة العسكرية الالزامية { باستثناء جان الذي ألقي القبض عليه من قبل مفرزة للجيش الشعبي في السنوات الأولى من الثمانينيات وأخذوه الى أحد القواطع } ، وكلنا فقراء ، وكلنا لم نعمل في دوائر النظام الاعلامية والثقافية ، وكلنا جئنا بغداد من محافظات أخرى . كان سلوكنا الاجتماعي الريفي والبدوي واضحاً جداً في تعاملنا مع الآخرين . جان دمو القادم من كركوك وقصائده السوريالية وثقافته الغربية ، وكزار حنتوش القادم من الديوانية وقصائده الشبيهة بالشعر الشعبي والتي لا تنتمي الى تقاليد ومناخات وطرائق الشعر العراقي ، وحسن النواب القادم من كربلاء بإرثه الهندي وقصائده عن مملكة لكنو الاسطورية ونهر الهندية والمهراجات والممثلات الجميلات ، وأنا المتخرج في مركز لمحو الأمية وتعليم الكبار والمولود في الناصرية بقصائدي التي كشف القناع عنها الناقد حاتم الصكر في مقال نشرته صحيفة الجمهورية عام 1989 حول مجموعاتي الاربع التي صدرت بخط يدي ووزعتها في مقهى { حسن عجمي } وأسماها { جهشات الغجري الملعون } . لم نكن وحدنا نحب الكحول . كان أغلب الذين نعرفهم ونعيش معهم كحوليين ومرضى من الدرجة الأولى ويشربون أحياناً في اليوم 3 مرات ، بحثاً عن لحظات سرور وهمية وهروباً من المحيط العائلي الذي وجدوا أنفسهم فيه بحكم العادات الاجتماعية التي أجبرتهم على الزواج في سن مبكرة . كان جميع من عاشوا معنا وتعلقوا بنا عندهم زوجات وأطفال وبيوت ووظائف محترمة ، حاولوا أن يصبحوا صعاليك مثلنا . لكن هيهات ، لم يكن اختيارهم للصعلكة واعياً . كحوليين كانوا ولطفاء جداً أتعبتهم حياة العائلة ومسؤولية تربية الأولاد .



الغاية من العودة الآن الى موضوع الصعلكة في الشعر العراقي ، هو انني قرأت قبل أيام في صحيفة { الأهالي } التي تصدر ببغداد موضوعاً كتبه الدكتور جواد سماري بعنوان { صعاليك بغداد والموت على الأرصفة } أثبتّه هنا لاطلاع القارئ عليه . يخلط فيه بين الصعلكة التي كانت عندنا كمفهوم وطريقة حياة ، وبين النزعة الكحولية المرضية عند البعض . وكما ذكرت في مناسبة سابقة أن مرض الكحول ، جين يصاب فيه من 13 الى 15 في المئة من البشر ، وهؤلاء يجب معالجتهم من الادمان في مستشفيات الأمراض النفسية تحت اشراف أطباء متخصصين ويخضعون لمراقبة دقيقة من أجل مساعدتهم في العودة الى الحياة الطبيعية . مستشفى بن النفيس عندنا في ساحة الأندلس مثلاً . هل يمكن لنا أن نعتبر الشخص المتزوج ولديه الكثير من الأولاد والذي يهرب من بيت الزوجية ويدمن الكحول ويتشرد في الشوارع والأمكنة المظلمة صعلوكا ؟ كلا بالطبع . يقول أمير الصعاليك عروة بن الورد : { أقسم جسمي في جسوم كثيرة } . الصعلوك لا يهرب من بيت الزوجية ويترك أولاده وزوجته ولا يستجدي المال من أجل الشراب . لأنه ليس لديه بيت أصلاً . كان كزار حنتوش حين يأتي الى بغداد طوال سنوات عديدة من أجل استلام مكافآت قصائده ، ينفقها كلها على الأصدقاء في البارات ويعود الى الديوانية خالي الوفاض ، ومثله كان يفعل حسن النواب . حين كلفني جان دمو عام 1993 أن أرسل قصائده الجديدة الى مجلة الأقلام التي شطب رئيس التحرير حاتم الصكر من أحداهن كلمة { الرئيس } ودفع المكافأة مقدماً . أنفقها كلها في جلسة سكر صاخبة ، ومعلوم أن لا كزار ولا حسن ولا جان كانوا يحتفظون في المال ، ولا أنا حين استلم راتبي من وزارة النفط وأنفقه في جلسة شراب واحدة تعج بالكثير من الصعاليك والكحوليين ، طالما انه يأتي من أولئك الأصدقاء اللطفاء الذين ابتلوا بشرور الكحول . لم يحدث أن نام أحدنا على رصيف طوال سنوات الثمانينيات . كانت لجان دمو غرفته المستأجرة في شارع الرشيد وتقابل مقهى { حسن عجمي } وحين تركها راح يسكن في فنادق متواضعة يشاركه فيها أحياناً جان وكزار . في بداية سنوات الحصار كان اذا صادف وجاء حسن وكزار من مدنهم يحلو لهم النوم بعد أن يفرطوا في السكر على الأراجيح في حديقة نادي اتحاد الأدباء ، ويشاركهم ذلك جان دمو اذا لم يكن ممنوعاً من دخول مبنى الاتحاد . كانت فذلكاتنا تتفق والمناخ العام في تلك السنوات التي أتحدث عنها . تنشر صحيفة { الجمهورية } للهيب عبد الخالق وعدنان الصائغ ولا تنشر قصيدة النثر . استنسخت مرة بيدي قصيدة لسامي مهدي كانت منشورة مع قصائد أخرى له في مجلة { آفاق عربية } وعرضتها عليه في مقهى { حسن عجمي } . امتعض وقال : { يجب أن تعيد صياغتها . الموضوع مفكك } . أخبرته انها له ومنشورة في { آفاق عربية } اسقط في يده وضحك مشفقاً عليّ وعلى جرأتي في التجرء على هذا الفعل . ليست هذه صعلكة . انها فذلكة . لا أود هنا أن أناقش ما كتبه الدكتور جواد سماري واترك ذلك الى القارئ . لم تكن لدينا أية مشكلة مع سلطة نظام صدام حسين في تلك السنوات ، ولم ندعي معارضته ، ولم تكن لنا بطولات وهمية ضده . اكتفينا في العيش على هامش المجتمع ضمن مفهوم الصعلكة الذي اخترناه ولم نمجد حروب النظام وديكتاتوريته ، وأعتقد أن سلوكنا هذا في الابتعاد عن النظام كان أبلغ ادانة له . في مهرجان المربد الذي عقد عام 1993 تمت دعوة كزار حنتوش ، وكان من المفروض أن يقرأ شعره في { قاعة الرباط } . كان كزار يرتدي قمصلة عسكرية مهلهلة ومتسخة . قبل أن ينادى عليه للقراءة أعاره صديقنا الشاعر الفلسطيني أحمد يعقوب قمصلته الجلد السوداء النظيفة . صعد كزار منصة القراءة وكانت قصيدته التي يود قراءتها قد نسيها في قمصلته العسكرية التي أودعها عند أحمد . وبما انه كان مخموراً فقد راح يفتش في جيوب قمصلته السوداء عن قصيدته الضائعة . أمام دهشة وضحك الجمهور قام كزار بعد أن يأس في العثور على قصيدته بارتجال بضع أبيات أهداها الى عبد الأمير معلة رئيس أتحاد الأدباء لعراقيين دفعاً للاحراج الذي شعر فيه ولكي يضمن المبيت في المستقبل على ارجوحة في حديقة نادي اتحاد الأدباء . هل تعتبر هذه الحادثة صعلكة ؟ . كلا بالطبع . كنا نمارس تقاليد الشراب في الليل دائماً ، وأحياناً في النهار بخمارات شعبية في { الباب الشرقي } أو منطقة { الميدان } . ومثلما كنا نقرأ الكثير عبر أوقات نخصصها للقراءة كل حسب طريقته ، فقد كنا نكتب الكثير باستثناء جان دمو العاطل عن فعل الكتابة دائماً . لم نكن مجانين أو وجوديين ، وكنا نعيش حريتنا في كل خطوة نخطوها بكل امتلاء . هل شعرنا في الاستلاب في يوم ما ؟ نعم ، مرات كثيرة ، لكنه ليس الاستلاب العائلي . كنا نسخر دائماً من صنّاع الأدب المتنطعين وأولئك المتطفلين على الشعر والثقافة . يخشى عليّ الدكتور جواد سماري من الموت في الغربة على الأرصفة وأود شكره هناك باحترام فائق ، وهو لا يعلم انني بالكاد أخرج من بيتي بعد العودة من المدرسة ، بسبب دافع القراءة المستمرة والكتابة في كل يوم . أقلعت منذ سنوات عن الشراب لأنني لست كحولياً ، ولا أستطيع الشراب الآن إلاّ في فترات متباعدة وحسب موعد مع أصدقاء وعلى شرط أن يكون اليوم التالي يوم عطلة . في العاصمة النرويجية أوسلو التي عدت منها صباح يوم24 / 7 تفاجأ أصدقائي الذين ضيفوني هناك ، من انني وصديقتي قد اكتفينا ببضع علب بيرة وقارورة نبيذ أحمر فقط وكانت مائدة الشراب عامرة بمشروبات أخرى كثيرة ، وفي اليوم التالي عرض عليّ الصديق الفنان مازن منصور بكرم بالغ أن نذهب الى حانة ونحتسي البيرة ، فأخبرته انني في حاجة الى القهوة . كان مفهوم الصعلكة صعباً في سنوات الثمانينيات ويحتاج الى جرأة حقيقية للالتزام فيه ، ولم تكن طريقه مفتوحة لكل من يريد دخوله وهجر الحياة العائلية حسب رغبة آنية أو مزاج معين . الفرق شاسع بين الجلوس في المقاهي النهار كله وعدم الرغبة في العمل والادمان على الكحول ، وبين طرق حياة الصعلوك الحرّة دائماً والمليئة في القراءة والكتابة المتواصلة .
[/align]