تتجمع لدى المسلمين عظام أضاحيهم وأظلافها وحوافرها، وهذه مما يستفاد به في الصناعات المختلفة وغيرها، مع أن عادة بعض من لا يفيد منها إفادة مباشرة أن يتخلص منها، وإن كان له أن يبيعها ويحصل في مقابل ذلك على ثمن، إن كانت عظام حيوان مأكول اللحم مزكى زكاة شرعية، وهذا مما اتفق الفقهاء عليه، ولذا فإن التخلص منها دون فائدة مالية أو غيرها يعد منهياً عنه، بحسبانه إضاعة للمال وما فيه من منفعة مشروعة، فإن كانت من حيوان غير مأكول اللحم أو من ميتة، أو من مأكول اللحم غير المزكى زكاة شرعية، فقد اختلف الفقهاء في حكم بيعها: فذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية الى عدم جواز بيعها، لقوله تعالى: “حرمت عليكم الميتة”، حيث أفادت الآية حرمة تناول الميتة، وما لم يزك زكاة شرعية ميتة، وما حرم تناوله حرم بيعه، فدلت الآية على حرمة بيع الميتة، وأبعاضها من عظام وأظلاف وحوافر في حكمها، لأن ما حرم جميعه حرمت أجزاؤه، ولما روى عبدالله بن عكيم رضي الله عنه قال: “كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب”، إذ أفاد النهي عن الانتفاع بالميتة عامة، وبيعها نوع انتفاع، فيكون داخلاً فيما نهي عنه بالحديث، والنهي الوارد على كل الميتة يرد على أبعاضها، فدل على حرمة بيع عظام الميتات وأظلافها وحوافرها، وروي عن جابر رضي الله عنه “أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول وهو بمكة: إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل، يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ قال: لا هو حرام”. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم ثمنه”، فأفاد حديث جابر حرمة بيع الميتة عامة، فحرم بيع أجزائها ومنها العظام والأظلاف والحوافر ونحوها، وأفاد حديث ابن عباس حرمة ثمن الميتة التي حرمها الله تعالى، وهو دليل على حرمة بيع العظام والأظلاف والحوافر ونحوها من الميتة، وذهب فريق من الفقهاء الى حل بيع عظام الحيوانات وأظلافها وحوافرها من الميتات، وهو قول بعض التابعين وإليه ذهب الحنفية، لقوله تعالى: “والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين”، حيث أفادت أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأشياء لنا ومنّ علينا بها، دون فصل بين الذكية والميتة، فدل على تأكد إباحتها، وما حل لنا الانتفاع به فقد أبيح لنا بيعه، لأنه لا يتأتى الانتفاع به إلا إذا قيل بجواز بيعه وابتياعه، وروي عن ثوبان قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، وأول من يدخل عليها إذا قدم فاطمة، فقدم من غزاة له وقد علقت مسحاً أو ستراً على بابها، وحلت الحسن والحسين قلبين من فضة، فقدم فلم يدخل، فظنت أن ما منعه أن يدخل ما رأى، فهتكت الستر وفككت القلبين عن الصبيين وقطعته بينهما، فانطلقا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يبكيان، فأخذه منهما وقال: يا ثوبان اذهب بهذا الى آل فلان، أهل بيت بالمدينة، إن هؤلاء أهل بيتي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج”، فقد دل الحديث على جواز بيع العاج، كما دل على جواز بيع عظام الميتات، لأن العاج هو سن الفيل الذي يؤخذ منه بعد نفوقه، وهو من قبيل العظم، وقد ظهر استعمال الناس له من غير نكير، وروي عن أنس رضي الله عنه “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتشط بمشط من عاج”، فأفاد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعمل عظم ميتة (وهو العاج الذي هو سن الفيلة الذي يؤخذ منها بعد نفوقها) في تمشيط شعره، وهو دليل على حل استعماله وإباحة ابتياعه لتحصيل هذه المنفعة، وقال الزهري في عظام الموتى نحو الفيل وغيره: “أدركت ناساً من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها ولا يرون به بأساً”، وقال ابن الهمام: “منهم من حكى إجماع العلماء على جواز بيع سن الفيل، وهو من العظام التي تؤخذ منه بعد موته، ولأن حرمة الميتة ليست لموتها، بل لما فيها من الرطوبات السيالة والدماء النجسة لانجمادها بالموت، ولا رطوبة في هذه الأشياء فلا تكون حراماً”. ومشهور مذهب المالكية كراهة بيع عظام الميتات وأظلافها وحوافرها، لقوله تعالى: “حرمت عليكم الميتة”، حيث أفادت الآية حرمة الميتة عامة، مما يقتضي حرمة الانتفاع بها وبأجزائها، إلا أن السنة لما خصت من هذه الحرمة الانتفاع بجلود الميتات، بقي ما سواها على أصل الحرمة، إلا أن حرمة الانتفاع بالميتة لما كان موضع خلاف بين الفقهاء، كان القول بالكراهة مراعاة لهذا الخلاف، والراجح من آراء العلماء هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، من عدم جواز بيع عظام الحيوانات وأظلافها وحوافرها إن كانت من ميتة، أو من غير مزكى زكاة شرعية، أو من حيوان غير مأكول اللحم، لما استدلوا به على مذهبهم، ولأن حديث شاة ميمونة الدال على جواز الانتفاع بجلد الميتة وإن أفاد حل الانتفاع بجلد الميتة بعد دبغه، إلا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستدلون بآخر الأمرين من قوله أو فعله، فيعتبرونه ناسخاً لأولهما، وقد جاء في حديث عبدالله بن عكيم السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى قبل وفاته بشهر عن الانتفاع من الميتة بإهاب أو عصب، فيكون قوله ناسخاً لرخصة الانتفاع بشيء من الميتات، وعظام وأظلاف وحوافر الحيوان إنما تؤخذ منه بعد نفوقه، فإن كان من غير المأكول فهو ميتة، وكذا إذا كان مأكولاً إلا أنه لم يزك أو زكي زكاة غير شرعية، فيكون النهي عن الانتفاع بجلد الميتة وارداً في حقه، وتكون الأحاديث الدالة على حل الانتفاع بالجلود بعد دبغها بما فيه البيع، مخصوصة بجلود ما زكي زكاة شرعية من مأكول اللحم دون غيره.