ابن تيمية .. أحيا السنة وحارب البدع والخرافات
ولد في زمن عصيب، وعاش حياة صعبة مليئة بالأحداث والمحن، حتى بعد وفاته بمئات الأعوام.. في أيامنا هذه يرى كثير من العلماء والدعاة أنه صاحب مدرسة فقهية أثرت في حياة المجتمعات الإسلامية في عصره والعصور التي جاءت بعده.. وهؤلاء الذين رأوا تأثير “ابن تيمية” في الفكر الإسلامي وخاصة في الفقه والتفسير انقسموا إلى قسمين: قسم اتبعه وتبنى فكره وعمل على نشره وتعصب له.. أما القسم الثاني فقد انتقده وعاداه واتهم أتباعه بالتطرف والغلو وحاربه حربا لا هوادة فيها.
هو “أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله تقي الدين أبو العباس الملقب بشيخ الإسلام ابن تيمية” الذي ولد يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول عام 661 ه الموافق الثاني عشر من يناير/كانون الثاني عام 1263 ميلادية بمدينة حران بالقرب من دمشق وذلك بعد ثلاث سنوات من سقوط بغداد في أيدي التتار.
تفوق ابن تيمية في دراسة الفقه والحديث والخط والحساب والتفسير وسنه لم تتجاوز العاشرة ولما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ في التأليف والإفتاء وذاع صيته في التفسير ولما توفي والده الذي كان من كبار فقهاء المذهب الحنبلي تولى التدريس بدلا منه على مذهبه نفسه وهو المذهب الحنبلي، وكان من أبرز الشيوخ الذين تتلمذ على أيديهم الشيخ زين الدين ابن المنجا والشيخ المنجد بن عساكر وآخرون من علماء وشيوخ المذهب الحنبلي.
التوفيق بين المعقول والمنقول
تطور فكر الإمام أحمد بن تيمية فكان من مذهبه التوفيق بين المعقول والمنقول، ومن هنا بدأت مواقفه ومعاركه التي لم تنته حتى اليوم!
كان الإمام أحمد بن تيمية جريئا في إظهار رأيه والدفاع عنه وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي اهتم بإحيائها في وقت نسي الناس فيه الكثير منها حتى سمي ب”محيي السنة”.
عاش ابن تيمية فترة صباه أيام حكم الملك الظاهر بيبرس لمصر والشام وهو الملك الذي اهتم بالجهاد في سبيل الله فأيده ابن تيمية وهو شاب بعدما ذاع صيته، ثم كان الأمر نفسه مع السلطان قلاوون الذي خلف الظاهر بيبرس وأكمل ما بدأه في محاربة التتار وطردهم، وكان لابن تيمية دور مهم في إقناع ملك التتار بوقف الزحف على دمشق وإطلاق سراح الأسرى المسلمين عندما ذهب إليه على رأس وفد من العلماء بعدما أخذ يخوفه تارة ويقنعه تارة أخرى.
كان ابن تيمية قوي الإيمان فصيح اللسان شجاع القلب، غزير العلم، كان وحده قوة عظمى يحسب لها ألف حساب فازداد الناس تعلقا به والتفافا حوله، وظل ابن تيمية يقضي وقته بين التدريس في المساجد وتبصير الناس بأمور دينهم وبيان ما أحل الله وما حرم والدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مناظرة الفقهاء
كثرت مناظرات أحمد بن تيمية مع منافسيه الذين انتقدوا عليه أمورا خالفهم فيها، منها قوله إن طلاق الثلاث إذا صدر في جلسة واحدة هو طلاق رجعي بمنزلة الطلقة الواحدة، وأيضا نهيه عن زيارة القبور والتوسل بأصحابها ومن أجل ذلك نازع العلماء المخالفين ونازعوه وأبلغوا أمره إلى الملك الظاهر بيبرس في القاهرة فاستدعاه إلى مصر وعقد مجلساً لمناظرته ومحاكمته حضره القضاة وكبار رجال الدولة وانتهى الأمر إلى الحكم عليه بالحبس في قلعة الجبل مع أخويه حيث بقي هناك لعام ونصف العام، ثم تم نفيه إلى دمشق التي لبث فيها فترة قصيرة أوقع فيها منافسوه بينه وبين الظاهر بيبرس مرة أخرى، فأعيد إلى القاهرة مرة أخرى وتم حبسه ثم نقل للإسكندرية، حيث حبس هناك لمدة ثمانية أشهر.
واستمرت محنة ابن تيمية واضطهاده إلى أن توفي الظاهر بيبرس وتولى السلطنة بعده السلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي أخرجه من سجنه وعقد مجلسا حافلا ضم القضاة والأعيان وكبار رجال الدولة برأه فيه مما اتهمه به منافسوه.
بعد ذلك عاد ابن تيمية إلى دمشق وعاد فقهاء دمشق إلى مناظرته فيما خالفهم فيه وتقرر حبسه في قلعة دمشق ثم أمر السلطان الناصر محمد بن قلاوون بالإفراج عنه حيث استقر به الحال بعد ذلك مع التدريس والتأليف.
لم تكن محنة ابن تيمية الأخيرة في دمشق بسبب مخالفته للعلماء الذين ناظروه فحسب ولكن السبب الأساسي كان لرفضه تغيير فتوى أمره السلطان بتغييرها ولكن ابن تيمية الذي لم يهتم بأوامر السلطان تمسك برأيه وقال “لا يسعني كتمان العلم” فحبسه السلطان ستة أشهر وبعدما خرج من سجنه عاد يفتي من جديد برفض شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين وقوله بأن هذه الزيارة غير واجبة فأعيد حبسه من جديد مع أخيه الذي كان يخدمه.
اختلاط الباطل بالحق
لم تكن مواقف ابن تيمية مجرد أقوال وعلوم ينادي بها، بل تعدى ذلك إلى العمل بها ومن أجل رفضه لقيام الناس بالتبرك بصخرة بمسجد النارنج لاعتقادهم بأن عليها أثرا لقدم النبي صلى الله عليه وسلم قام باقتلاع هذه الصخرة فأنكر عليه الناس ذلك كما أنكر عليه كثيرون قوله إنه لا يصح الاستغاثة بأحد من الخلق ولا حتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يستغاث بالله وحده.
وكان يرفض وينكر بشدة قيام فقراء الطرق بالدخول في النيران المشتعلة وأكلهم الحيات ولبسهم الأطواق الحديدية في أعناقهم من السلاسل.
ولكن لماذا اتخذ ابن تيمية هذه المواقف التي رأى البعض أن فيها تطرفا لأنها تكفر المسلمين الذين يشهدون الشهادتين لأنهم يرتكبون بعض الأفعال التي يمكن أن يعتبرها البعض معاصي أو ذنوبا سواء كانت كبيرة أو صغيرة؟
الحقيقة أن الزمن الذي ولد وعاش فيه ابن تيمية يمكن أن تجيب أوضاعه عن هذا السؤال: كان قد مضى على ظهور الإسلام سبعة قرون ظهر فيها الكثير من الفرق الكلامية وانحرف الكثير من الطرق الصوفية عن جادة الإسلام وسننه وجعلت من نفسها قوة بطش خضع لها بعض الحكام، كما خشي بعض الفقهاء منها، وفي ذلك الزمن كان لكل ذي رأي حدة وعصبية جاهلية، وادعى فيه كل منهم أنه صاحب الحق والصواب وأصبح الاستبداد هو الصفة السائدة وخاصة عندما شاركت بعض الفرق في التأويلات الباطنة للقرآن والتي تداخلت معها تأويلات المعتزلة فاختلط الباطل بالحق.
في هذا الجو ومع انتشار الجهل ظهر الكثيرون من المشعوذين والدجالين وكان لابد من العودة إلى إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل مواجهة كل هذه الخرافات.
تلاميذ ومؤلفات
خلف ابن تيمية عددا كبيرا من التلاميذ الكبار من أبرزهم شمس الدين ابن قيم الجوزية، وأبو عبد الله محمد الذهبي صاحب ميزان الاعتدال، وإسماعيل بن عمر بن كثير، ومحمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي، وزين الدين عمر الشهير بابن الوردي، وأبو حفص عمر الحراني وغيرهم.. وغيرهم.
أما مؤلفاته وكتبه فقد تشعبت في مختلف العلوم الدينية مثل العقائد والتفسير والفقه. كان له في التفسير: رسالة في منهاج التفسير وكيف يكون، وأيضا كتاب في تفسير سورة الإخلاص وآخر في تفسير المعوذتين.
أما في مجال العقائد فقد كانت كتبه صاحبة الأثر البعيد في الرد على أصحاب الفرق والبدع المختلفة، ومن أهم هذه الكتب “الإيمان” و”الاستقامة” و”الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان” و”التوسل والوسيلة” و”العقيدة الواسطية” و”معتقدات أهل الضلال” و”بيان الفرقة الناجية” و”منهاج أهل السنة”.
أما في مجال الفقه الذي كان ترجمة لكل ما حمل من منهاج حنبلي فقد ترك ابن تيمية العديد من الكتب من أهمها “رسالة القياس” و”القواعد” و”رسالة الحسبة” و”الأمر بالمعروف” و”العقود” و”المظالم المشتركة” و”حقيقة الصيام”.
وكانت له بعض المؤلفات الأخرى مثل “الإكليل في المتشابه والتأويل” و”الرسالة الأكملية” و”الرسالة العرشية” و”رسالة في أمراض القلوب وشفائها” و”رسالة إيضاح الدلالة في عموم الرسالة”، وبالإضافة إلى كل ما سبق كان لابن تيمية إنتاج شعري تمثل في عدة قصائد منها “يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي”.
مواقع النشر (المفضلة)