[align=justify][align=center]دراسة تحليلية " تجليات المأساة في شعر الخنساء"
(الجزء الأول)
بقلم: السيد خا لد عبد اللطيف
يعتبر شعر الخنساء من أروع مانظم من قصائد متميزة في العصريين الجاهلي والإسلامي،باعتبارها شاعرة مخضرمة،عاشت في الجاهلية وأدركت الإسلام.
ولعل خير ما يجعل شعر الخنساء متميزا يعود للأسباب التالية:
1/ أولا شعر الخنساء أغلبه ذاتي يعبر عن وقائع حقيقية عاشتها الشاعرة.
2/ ارتباط شعر الخنساء بواقعها الإجتماعي والسياسي والإقتصادي والديني.
3/ اعتبار شعر الخنساء هو "شعرتجربة" أي شعر معاينة لأحداث ملموسة أثرت في نفسية الخنساء،وأنتجت شعرا صادقا نابعا من أعماق شاعرة عاشت الويلات،وذاقت مرارة الفراق من موت الإخوة والأبناء،وباقي شباب القبيلة وشيبها.
4/ الصدق في نقل هذه الوقائع بلغة شعرية راقية.
5/إجماع النقاد على اعتبار شعر الخنساء من الأشعار الرفيعة،لا من حيث جماليةالصورالشعرية،واتساق التركيب،وانـــــسجام الإيـــــــقاع،وتــــرابط الدلالات،وتنويع القوافي.
" والخنساء من شواعر العرب المعترف لهن بالتقدم،أجمع الشعراء ورواة الشعر القدماء على أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها اشعر منها في الرثاء،وعدوها في الطبقة الثانية" (1)
لقد ارتبط شعر الخنساء بالرثاء،مما جعلها تتفق في هذا الغرض الشعري،ولم تستطع أية شاعرة أن تضاهيها أو تنافسها،لأن الخنساء ظلت وفية لهذا الغرض الشعري الذي لازمها ولازمته، بناء على المآسي المتعددة التي عاشتها،وإن صح التعبير أسمينا هذا الشعر ب" شعر الأحزان".
ولعل شاعرية الخنساء وعلو كعبها،وقدرتها القوية في تميزه كشاعرة هو قول جرير يعترف بشعريتها.
"قيل سئل جريرمن أشعر الناس،فقال،أنا لولا هذه الخبيثة،يعني الخنساء،وقال بشارفيها،لم تقل امرأة قط إلا تبين الضعف فيه،فقيل له،أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال" (2)
إن أول ملاحظة يمكن ان يرصدها قارئ أو ناقد ديوان الخنساء،هو طغيان دلالة البكاء والدموع والنحيب والآهات.
وأول ما يطالعنا في ديوانها قولها:
ياعين مالك لا تبكين تسكابا * إذا راب دهر وكان الدهر ريابا.
فابكي أخاك لايتام وأرملة * وأبكي أخاك إذا جاورت أجنابا(3)
فالخنساء تذرف الدموع،لكنها لا تكتفي بذلك،بل هي تحرض عيونها عــــلى الا تتوقف عن ذرف الدموع،مخافة أن تتوقف عن البكاء.
فهي متهيجة وحزينة،وحزنها يزداد مع تفاقم وضعيتها النفسية وتأزمها.
فالبكاء بالنسبة لها ليس مجرد فعل عضوي للعين في استخراج الدموع،بل هو نوع من الوفاء لذكرى أخيها صخرا،الذي فجعت في موته،هذا الأخ الذي يتصف بالجود والعطاء وإيواء الغريب.
صخر الذي يعتبر بالنسبة للخنساء العطوف على الأيتام والأرامل المكفكف لدموع اليتامى،والمحرومين والبائسين.
صخر الذي تجسدت فيه كل الصفات الكريمة والخصال الحميدة،صخر البطل الشجاع والمحارب المغوار المدافع عن قيم التسامح والعدالة الإجتماعية،هو صخر الذي رثثه الخنساء وسكبت عليه الدموع مدرارا.
تقول الخنساء:
وأبكي أخاك لخيل كالقطا عصبا * فقدن لما ثوى،سيبا وأنهابا
يعدو سابح نهد مراكله * مجلبب بسواد الليل جلبابا(4)
تظل دلالة البكاء صفة ملازمة للخنساء،وتكرار كلمة" البكاء" دليل على أن الخنساء لم تشف غليلها من إثبات حزن متكامل،وحزنها على صخر لا تكفي الدموع وحدها للتعبير عن فقدان آخ كامل الأوصاف.
صخر يظل قطب الرحى في مخيلة الخنساء وموته يعني موتها،وبدونه سمج وجه الحياة لديها،وفقدت لذة العبش وكأنما لسان حالها يقول" ماقيمة حياة في موت أعز الناس"
إنها تناجيه في في يقظتها ومنامها،في سرها وعلانيتها،في صبحها ومسائها،في عشيها وأبكارها.
فصيغة الأمر" أبكي" دليل صدق على تداول البكاء والا ستمرار فيه والتوغل في تشعباته المتعددة باعتبار" البكاء" رمزا للحزن والألم والتعاسة والفاجعة والكآبة"
الخنساء اذن تعيش حالة سوداوية،وانتكاسة متواصلة لا حدود لها.
لقد شبهت الخنساء صخرا بطائر القطا الذي يضرب به المثل في الهداية فيقال" أهدى من القطا"
وصخر لا يركب من الخيول إلا الفرس الحسن الجميل الجسم،الواسع الجوف العظيم المركل،نسبة للحصان القوي العربي الأصيل.
تقول الخنساء:
هو الفتى الكامل الحامي حقيقته * مأوى الضري إذا ماجاء منتابا
يهدي الرعيل إذا ضاق السبيل بهم *نهدالتليل لصعب الأمر ركابا(5)
تفننت الخنساء في وصف أخيها صخرا وعلاقته الحميمية بالفقراء والمحتاجين والمستضعفين في الأرض كعلاقة الشجرة بجذورها،وعلاقة الموج بالبحر،وعلاقة الأم بطفلها،لا فكاك لهذا من ذاك.
فصخر هو حامي الفقراء والمشردين والمعوزين،وهو المدافع عن القبيلة والعشيرة والحي.
وهو تصوير فني من الخنساء،على اعتبار صخر له شعبيته الواسعة لدى الفقراء،يتفهم وضعياتهم،ويساعدهم والدليل على ذلك هو أن هؤلاء المحتاجين يعودون مرات متعددة من أجل أن يكرمهم،ويمدهم بسخائه وكرمه الحاتمي.
فهو يمد يده البيضاء مد الكريم،ويبسطها بسط الجواد الندي اذا منح لا يتوقف عن العطاء،واذا وهب فهبته كبيرة كبر قدره وعالية علو مكانته.
وبعد أن تسرد علينا الخنساء فضل صخر على الفقراء،تعود لتسمعنا من درر شعرها على فجاعة الفقدان،وحدة المصيبة التي ألمت بها لرحيل كبير الفرسان وحامي الديار.
مابال عينيك منها دمعها سرب * أراعها حزن أم عادها طرب
أم ذكرصخر يعيد النوم هيجها * فالدمع منها عليه الدهر ينسكب(6)
عيون الخنساء" تورمت من البكاء،الدموع منهمرة غزيرة لا تتوقف،إنها نزيف مسترسل،هي فيض الأسى لا تلتئم جراحها،شيء ما يحدد على الخنساء مواجعها،يعادها الدمع،ولا يهادنها،إنه يفجر ما تبقى من طاقتها على الصبر،يفتت كبدها،ويشعل النيران في صدرها ويحرق قلبها.
لقد تمكنت الخنساء ببراعة تصويرها من الجمع بين دلا لتين موحدتين: (الحزن/ والطرب) لكي تؤكد أن مأساتها مراتب وطبقات والطرب هنا( بفتح الطاء والراء) هو الحزن الشديد.
الشيء الذي لا يختلف فيه ناقدان،ولا يتنازع حول صحتها قارئان نموذجيان،كون الخنساء تنتفي عنها صفة" النسيان" فكل من فجع في قريب له إلا وينسى فجيعته مع الزمن، إلا الخنساء فقد اتخذت على نفسها عهدا ألا تنسى فواجعها ومآسيها.
والنسيان في التحليل النفسي" حالة لا شعورية"فنحن لا ننسى الا الأشياء التي نكرهها،أو تمثل ذكرى قاسية علينا عشنا أحداثها.
الخنساء لا تنسى..ولا تريد أن تنسى،لقد ظلت ترثي اخويها صخرا ومعاوية وابنائهم الى أن لحقت بهم .
وهذا الإلتزام في تذكر الخنساء لأخويها وأبائها هي ظاهرة منفردة ومختلفة يمكن لكل ناقد او قار ئ لشعر الخنساء أن يتوقف عندها،
فهذا الا ستحضار المتجدد في ذاكرة متجددة كذاكرة الخنساء لحديرة منا بأن نفرد لها دراسة خاصة حول تمسك الخنساء بنفس المشاعر الصادقة المتأججةو الدائمة لكل من فقدتهم من عائلتها،وهم ما يجعل الكثيرين يقفون وقفة إجلال لهذه الشاعرة التي ماتراجعت قيد أنملة فيما أخلصت له ونذرت نفسها من أجله.
فالخنساء عبقرية في شعرها وفي ابداعها وفي مواضعيها المرتبطة بالرثاء بلغة شعرية متجددة وأفكارراقية.
التذكر عند الخنساء هو نقيض النسيان،إنه إكسير الحياة الذي يمنحها القوة والمناعة على استمرارتعلقها بأخيها صخرا،إن التذكر بقدر ما هوترياق يمنح الخنساء الشعور برغبتها في الوفاء بنذرها لأخيها،والوفاء لذكراه،بقدرما تتملكها حالة من الهستيريا،إنها في لا شعورها تتنا قض مع قدرتها على تقبل فكرة الإيمان بالقضاء خيره وشره.
الموت حق "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"(7).
التذكر يهيج الخنساء،وبطريقة لا شعورية تنسكب الدموع من عيونها مدرارا.
لقد ظلت الخنساء محملة بأحزانها المبطنة في أشعارها في رحيلها وترحالها،حتى في سوق" عكاظ" الشهيرة" كانت الخنساء لا تتنازل عن الموضوع الذي التزمت به وهو رثاء صخر،وهذا ما سنؤكده من خلال هذا الحوار.
"أتت الخنساء النابغة في سوق عكاظ وأنشدته:
قذى بعينك أم بالعين عوار * أم أقفرت إذا خلت من أهلها الدار
فلما بلغت قولها:
وإن صخرا لتأثم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
قال :
ما رأيث ذا مثانة أشعر منك"
ويروى أنه قال لها" لولا أن أبا بصير سبقك لقلت أنك أشعر من في السوق"
(8)
لقد ظل صخر تلك الصورة الحية التي لا تمحى من ذاكرة الخنساء،وتناسلت خيوط الحزن،وسبائك الألم،وامتزج التذكر بالبكاء،والأسى باستحضار الفاجعة.
صخر في نظر الخنساء ما مات ولن يموت،كل شيء يذكرالخنساءبه،والتذكر أصل امتداد الفاجعة عند الخنساء.
إني تذكرته والليل معتكر * ففي الفؤاد صدع غيرمسغوب
نعم الفتى كان للأطياف إذ نزلوا * وسائل بعد النوم محروب(9)
فالخنساء تذكر صخرا بالليل الشديد الظلام،وفؤاده( أي قلبها) متصدع من شدة التعلق بصخر الذي ترك فراغا كبيرا في قلب الخنساء.
صخر المضياف الذي أعطى وأجزل العطاء،ولم تكن قسمته ضيزى.
فالتذكر هو زيادة في ألم الخنساء،والتذكر عند الخنساء،جعل السيل يبلغ الزبى،إنه الطامة الكبرى التي حلت بها،ودمرت حياتها.
ذكرتك،فاستعبرت والصدر كاظم * على غصة من الفؤاد يذوب
لعمري لقد أوهيت قلبي عن العزا * وطأطأت رأسي والفؤاد كئيب (10)
إن تكرار الفعل" ذكرتك" خصيصة جوهرية في شعر الخنساء،والغاية من توظيفه هو التأكيد على فداحة الأمر،وتعلق الشاعرة بأخيها الذي رحل إلى دار البقاء.
وارتبط التذكر عند الخنساء بذرف العبرات،فيحين يظل الصدر كاظما للحرقة الداخلية،تلك النار التي لا يطفئها أي عزاء مهما كان نوعه،وقلب الخنساء يذوب من شدة المعاناة.
لقد أقسمت الخنساء مخاطبة صخرا أنها لن تستلم لهذا الوهن والضعف الذي قصد قلبها ،وأحزن فؤادها بأنها بصيغة أخرى تبحث عن وسيلة أخرى لتجديد تعاقدها مع الحزن.
ياعيني جودي بالدموع * المستهلات السوافح
فيضا كما فاضت غروب * المترعات من النواصح
وابكي لصخر إذ ثوى * بين الضريحة والصفائح.(11)
إن علاقة العيون بالدمع علاقة قديمة،ارتبطت بذات الخنساء،وفاضت دموعها.
لا تتحدث الخنساء عن العيون دون استحضار العبرات با عتبارها الوجه الآخر للفاجعة.
الخنساء تطالب الدموع بالفيض والامتلاء كما الغروب.
اكتمل الألم عند الخنساء بالإنتقال من حدث خارجي يرتبط بها(الدموع والبكاء) الى حدث داخلي يرتبط بقبر صخر الذي أقام وسط حفرة بها حجارة رقاق تسقف بها القبور.
قبر صخر تمر عليه الرياح النوافح لا أحد سيذكره سوى الخنساء،الأخت الوحيدة التي أخلصت لذكراه،وأحيت أمجاده وخصاله الحميدة.
الغبار والرياح والحجارة ثالوث يجسد إحدى السمات الأساسية للنهاية اليقينية للإنسان،القبر نهاية كل حي،وصخر أودت به شجاعته،لفه الردى وطواه القبر وحملته المنية الى باطن الأرض.
لا تخل أنني لقيت رواحا * بعد صخر حتى أثبن نواحا
من ضميري بلوعة الحزن حتى * نكا الحزن في فؤادي فقاحا(12)
إن الخنساء في كل ديوانها تجدد ميثاقها مع القارئ كونها لم تنس صخرا ولو لحظة واحدة،إنه يسكن جوارحها،ويستوطن في قرارات نفسها،هي لا تسلوه،حتى وإن طال الزمن،بل هي متشبثة بذكراه، إنها قد نحتت له تمثالا بداخلها،هو جزء منها ولا فكاك لها من ماضيه المجيد،وأريحيته الزكية،وسيرته العطرة.
الخنساء لم يعرف قلبها الفرح،ولاطرقت ابوابه السعادة بعد موت صخر،حياتها عذاب،وتفكيرها كله مشدود الى معضلة كبرى،معضلة الفراق القاهرنالموت تلك القوة المدمرة التي نالت من الخنساء وأخيها.
لوعة الحزن سرمدية تابثة في قلب الخنساء،ذاكرتها تنكأ الجراح،وتجدد المواجع.
الحزن لا يعيد الموتى،لكن الخنساء مصممة على أن تظل أجواء الحزن والألم مخيمة على نفسها جاثمة على روحها حتى لا تخون ذكرى صخر.
ضاقت بي الأرض وانقضت محارمها* حتى تخاشعت الأعلام والبيد
وقائلين تعزي عن تذكره* *فاصبرليس لأمر الله مردود(13)
إن الشاعرة التي جربت كل أنواع الأحزان،كآبة وألم ودموع وجزع،ولوعة وحرقة وصلت للطريق المسدودنوضاقت بها الأرض بعد يأس ذريع.
لقد تلقت الخنساء نصائح متعددة بنسيان صخر،ولا وسيلة لنسيانه إلا التسلح بالصبر.
• لا ئحة المراجع:
(1) كرم البستاني"ديوان الخنساء" دار صادرـ بيروت ط1 1996 ص5.
(2) نفس المرجع: ص6.
(3) نفس المرجع:ص7.
(4) نفسه ص7
(5) نفسه ص7
(6) نفسه ص8.
(7) سورة الرحمان: ىية26/27.
(8) الدكتور عبد المنعم خفاجي" الشعر الجاهلي" دار الكتاب اللبناني ـ بيروت ـ ط2 ص 145.
(9) كرم البستاني"ديوان الخنساء" دار صادرـ بيروت ط1 1996 ص14.
(10) نفس المرجع ص15.
(11) نفسه ص26.
(12) نفس المرجع ص26.
(13) نفس المرجع ص41.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ[/align][/align]
مواقع النشر (المفضلة)