بقرة مغامس والخوف من الحكومه

ومغامس هذا –كما تقول الكتب- كان أمير مكة في القرون التي سبقت الألف، وكان له بقرة –تسرّ الناظرين- ضخمة جميلة، تنطلق كل صباح ومساء من مربطها إلى السوق، فتجوس خلال الدكاكين وتلتهم ما لذّ وطاب وما يقع بين يديها ورجليها من علف أو برسيم أو فاكهة أو خضرة، ثم تغرس فمها في أجواف "الزنابيل" التي يرصّها أصحاب المحلات في واجهة كل دكان، وتفسد ما فيها ذرة ودخن وحب وشعير، وما تركت شيئاً إلا وقد أجهزت على أكثره!

ولا تكتفي بهذا بل تنثر الباقي، وتطعمه الأرض، وتشقلب الأقوات على بعضها، وتجعل عالي السوق سافله! أما موقف أصحاب الدكاكين –فهو كموقف المثقفين اليوم- ينحاز لخانة التخاذل والخوف، فكل صاحب دكان يقف مغتاظاً وعاجزاً، ولا يجرؤ أحد على صدّ البقرة أو ردّها خشية العقاب –كما كانوا يتوهّمون- معتقدين أن بقرة الأمير "أميرة"، وهي كذلك!

وربما كان الأمير لا يعلم عن هذه البقرة وأفعالها "العدوانية" شيئاً، وربما كان هذا العبث نتيجة لجوعها، أو إهمال المسؤول عن إطعامها وسرقته لقيمة العلف استغلالاً منه لضعف الباعة وجهلهم! وبعد مرور "كومة" من الزمان، طفح الكيل والطيش البقري بأصحاب الدكاكين، فحزموا أمرهم وقرروا أن يذهبوا إلى رجل من ذوي الإكبار والإجلال عند "الأمير مغامس"، ليشكوا إلى الحاكم ما يلقونه من "بقرته" النهمة، فوافق ذلكم الوجيه على الذهاب إلى الأمير، وطلب إليه أن يرافقه عشرون رجلاً منهم صباح الغد ليدخل بهم إلى الحاكم، ويطلب منه كفّ شر بقرته ووقف عدوانها اليومي!

وفعلاً تجمّعوا في اليوم التالي –كما يروي ذلكم الشيخ العلامة أحمد الغزاوي في صـ718 من كتابه "شذرات الذهب"- ولبس الوجيه جبّته، وتوجّهوا إلى القصر، وعندما وصل الوجيه إلى باب القصر التفت وراءه فوجد أن نصف العدد قد توارى، وما إن صعد السلّم حتى بدأ العدد يتناقص، فلما وصل إلى الأمير وجد نفسه وحيداً، ليس معه إلا جبّته وعمامته، وكاد يهم بالعودة لولا أن الخدم أشعروه بقدوم الأمير! دخل الوجيه وسلّم على الأمير سلام الوقور المحترم، وسأله الأمير عن حاجته فقال: المسألة بسيطة جداً، وهي أن كل أهل السوق جاءوا إليّ يرجون توسطي لديكم لتأمروا بإضافة ثور إلى البقرة التي تجتاح مبيعاتهم صباحاً ومساءاً، لأنهم يتباركون بها، وما تمسّ شيئاً إلا ويُضاعَف بيعهم منه وربحهم فيه! شعر الأمير أن هذا الكلام فيه من الرمزية ما يستدعي التوقف، وقال: هذا الكلام وراءه ما يدل عليه، ما هذا الذي تقول؟ فقال الوجيه: وما أصنع بهؤلاء القوم الذين خذلوني؟ ثم حكى للأمير ما كان من أمر بقرته "المعتدية"، وكيف أنهم هابوا الإقدام حتى على الشكوى، وليس لهم إلا أن يُعاقبوا بمضاعفة خسارتهم ما دامو جبناء!

وتقول الرواية أن الأمير مغامس ما كان منه إلا أن أمر بما يجب من حجز البقرة، وشكر للشيخ الوجيه وساطته وإيقاظه من غفلته وإنقاذه لرعيته، وتعهّد بأن يسدد قيمة ما سبق منها من "تجاوزات" لم يعلم عنها قبلاً!