في مدينة قرطبة الساحرة، إحدى مدن الأندلس وفي قصر أحد الوزراء، في أواخر شهر رمضان في عام 384هـ، كان ميلاد طفل مبارك أصبح له بعد ذلك شأن كبير، فرح به والده فرحاً شديداً، وشكر الله سبحانه وتعالى على نعمته وعطائه. نشأ الغلام في قصر أبيه نشأة كريمة، فقد كان أبوه وزيراً في الدولة العامرية وتعلم القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والشعر العربي، وفنون الخط والكتابة، وتمر الأيام ويكبر الغلام، فيجعله أبوه في صحبة رجل صالح يشرف عليه، ويشغل وقت فراغه، ويصحبه إلى مجالس العلماء.. إنه علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي الشهير بابن حزم الأندلسي.

كانت أسرته لها مكانة مرموقة وعراقة في النسب، فبنو حزم كانوا من أهل العلم والأدب، ومن ذوي المجد والحسب، تولى أكثر من واحد منهم الوزارة، ونالوا في قرطبة جاهاً عريضاً.
وكان أحمد بن سعيد والد ابن حزم من عقلاء الرجال، الذين نالوا حظاً وافراً من الثقافة والعلم، ولذلك كان يعجب ممن يلحن في الكلام، ويقول: إني لأعجب ممن يلحن في مخاطبة أو يجيء بلفظة قلقة في مكاتبة، لأنه ينبغي له إذا شك في شيء أن يتركه، ويطلب غيره، فالكلام أوسع من هذا.


وكانت هذه الثقافة الواسعة، والشخصية المتزنة العاقلة هي التي أهَّلت والد ابن حزم لتولي منصب الوزارة للحاجب المنصور ابن أبي عمر في أواخر خلافة بني أمية في الأندلس، وفي القصر عاش ابن حزم عيشة هادئة رغدة، ونشأ نشأة مترفة، تحوط بها النعمة، وتلازمها الراحة والترف، فلا ضيق في رزق ولا حاجة إلى مال، وحوله الجواري الحسان ورغم هذه المغريات عاش ابن حزم عفيفاً لم يقرب معصية.. يقول في ذلك: يعلم الله وكفى به عليماً، أني بريء الساحة، سليم الإدام، أي آكل حلالاً، صحيح البشرة، نقي الحجزة، وأني أقسم بالله أجل الأقسام، أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنى منذ عقلت إلى يومي هذا.

وتغيرت الأحوال، فقد مات الخليفة، وجاء خليفة آخر، فانتقل ابن حزم مع والده إلى غرب قرطبة بعيداً عن الفتنة، ومن يومها والمحن تلاحق ابن حزم، فالحياة لا تستقر على حال، فقد كشرت له عن أنيابها، وأذاقته من مرارة كأسها، بعدما كانت له نعم الصديق، واضطر ابن حزم إلى الخروج من قرطبة إلى المرية سنة 404هـ وبعدها عاش في ترحال مستمر بسبب السياسة واضطهاد الحكام له، وكان ابن حزم واسع الاطلاع، يقرأ الكثير من الكتب في كل المجالات، ساعده على ذلك ازدهار مكتبات قرطبة بالكتب المتنوعة، واهتمام أهل الأندلس بالعلوم والآداب. بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وطالب بضرورة الأخذ بظاهر النصوص في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وكان متنوع الكتابات، كتب في علوم القرآن والحديث، والفقه والأديان، والرد على اليهود والنصارى، والمنطق.. وغيرها من العلوم، قال عنه أحد المؤرخين: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان، أي علوم اللغة، وزيادة حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار.. وقد بلغ ما كتبه ابن حزم أربعمائة مجلد، تشتمل على ثمانين ألف ورقة تقريباً، كما قال ابنه الفضل.. يقول عنه الإمام أبو حامد الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً ألفه ابن حزم الأندلسي يدل على عظيم حفظه وسيلان ذهنه.

شغل ابن حزم منصب الوزارة ثلاث مرات، وكان وفياً للبيت الأموي الحاكم في الأندلس، وموالياً لهم، يعمل على إعادة الخلافة للدولة الأموية، ويرى أحقيتها في الخلافة، وبسبب ذلك كان يعرض نفسه للأسر أو السجن أو النفي، وقد دبر له خصومه المكائد، وأوقعوا بينه وبين السلطان حسداً وحقداً عليه، حتى أحرقت كتبه في عهد المعتضد بن عباد. تفرغ ابن حزم للتأليف، فأخرج كتباً كثيرة، مثل: «المحلَّى في الفقه» و«الفصل بين أهل الآراء والنحل» و«الإحكام في أصول الاكام» و«جمهرة أنساب العرب» و«جوامع السير»، و«طوق الحمامة» من أشهر كتبه، وفيه الكثير من الشعر الذي قاله في مختلف المناسبات. لقي ابن حزم ربه في الثامن والعشرين من شعبان سنة 564هـ عن عمر يقارب إحدى وسبعين سنة