الدارمي.. عرضت عليه الدنيا فرفضها
فارق الأهل وغادر الديار، وقطع الصحارى وعبر الأنهار، وسافر إلى عدد كبير من الأقطار والأمصار، لجمع الحديث والآثار والأخبار.
من خيرة أعلام خراسان، وعلماء زمانه وكل زمان، الذين اجتهدوا وجاهدوا واتقوا، ففازوا بوعد الرحمن “ولمن خاف مقام ربه جنتان”.
كان من الغيورين على الدين، وفي الدنيا من الزاهدين، وللآخرة من العاملين والمقبلين، أخذ العلم عن الأئمة العارفين، وتتلمذ عليه كبار الرواة ومشاهير المحدثين.
شهد له كل من أدركه وعرفه، وكل من جاء بعده وخلفه، ولمسنده بين كتب الحديث فضل ومكانة، حيث تحرى في متنه وسنده الدقة والأمانة.
إنه الإمام الدارمي (797 869م) الحافظ أبو محمد السمرقندي عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الصمد التميمي الدارمي السمرقندي، من أعلام المحدثين، تولى القضاء في سمرقند، وقد ولد بها سنة 181ه، في العام نفسه الذي توفي فيه ابن المبارك. وتوفي سنة 255ه عن 74 عاما.
عرف بالتقوى والصلاح والغيرة على دينه. رحل في طلب الحديث إلى العراق والشام ومصر والجزيرة والحجاز بالإضافة إلى خراسان.
تتلمذ على يديه 4 من أعلام أئمة الحديث وهم مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
جمع بين تفسير القرآن الكريم، وجمع وتصنيف الحديث الشريف. وذكره الحافظ الذهبي في “تذكرة الحفاظ” مع الأئمة الكبار: الذهلي ومحمد بن مسلم، وعبد الرحمن بن حميد، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، ويعقوب بن شيبة، ومسلم، وأبي داود وغيرهم.
من أشهر مصنفات ومؤلفات الإمام الدارمي: التفسير، المسند العالي (السنن)، الجامع الصحيح.
يقول د. أحمد عمر هاشم أستاذ الحديث بجامعة الأزهر: “كتاب السنن للدارمي كتاب جليل القدر، وله وزنه العلمي بين كتب الحديث المدونة في القرن الثالث الهجري، وهو مرتب على الأبواب”. وقال محمد بن عبد الله بن غير عن الإمام الدارمي “غلبت بالحفظ والورع”. وقال عثمان بن أبي شيبة: أمره أظهر مما يقولون في الحفظ والصبر وصيانة النفس. وقال ابن بندار “الدارمي من حفاظ الدنيا”.
مقدمات تدوين الحديث
وحول مقدمات تدوين الحديث الشريف في العصر النبوي ما رواه الدارمي عن أبي قابيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: “بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، نكتب إذ سئل
رسول الله أي المدينتين تفتح أولا: قسطنطينة أو رومية؟
وما أخرجه الدارمي عن بشير قال: “كنت أكتب ما أسمع من أبي هريرة فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابه، فقرأته عليه وقلت: هذا ما سمعت منك. قال: نعم.
وما رواه الدارمي عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة والوهظ، فأما الصادقة فصحيفة كتبها عن رسول الله صلى الله وسلم، وأما الوهظ فأرض تصدق بها عمرو بن العاص (كان يقوم عليها).
وما رواه الدارمي عن سعيد بن جبير قال: “كنت أسير مع ابن عباس في طريق مكة ليلاً وكان يحدثني بالحديث فأكتبه في واسطة الرحل حتى أصبح فأكتبه”.
وقد ساهم العلماء والفقهاء من العجم (غير العرب) بنصيب كبير في تطوير علوم الدين والدنيا في قرون الإسلام الأولى، خاصة أبناء منطقة وسط آسيا الممتدة من إيران إلى الهند وأفغانستان والمنطقة المحيطة ببحر قزوين، إذ كانت هذه الأمم قد قطعت شوطا كبيرا على طريق التقدم في العلوم والآداب والفنون، وعرفوا الكتابة والتدوين والزراعة والصناعة، وخرج من العجم من برع في علوم اللغة العربية وقواعدها مثل سيبويه والفارسي والزجاج، وكان منهم أعلام في علوم الحديث والفقه والتفسير، وروي عن عبد الله بن أسلم قال: “لما مات العبادلة صار الفقه في الموالي (غير العرب) إلا المدينة”.
والعبادلة هم عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو حامد بن الشرقي: إنما خرجت خراسان من أئمة الحديث خمسة رجال: محمد بن يحيى، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ومسلم بن الحجاج، وإبراهيم بن أبي طالب.
إقليم خراسان
وخراسان أحد أقاليم آسيا القديمة، يقع بين نهر أموداريا شمالا وشرقا، وجبال الهند جنوبا، وبلاد فارس غربا، وبعض مناطق ما وراء النهر، وسجستان. ومن أشهر مدنها سمرقند ونيسابور وبلخ وهراة ومرو.
وكلمة خراسان تعني “شمس الشرق” تتكون من مقطعين هما خور ومعناها شمس وآسان ومعناها الشرق فتحها الضحاك 656م، وحشد فيها أبو مسلم الخرساني ودعاة العباسيين 748م الجيوش التي قضت على الخلافة الأموية وأراضيها الآن تابعة لإيران وأفغانستان وتركمانستان وأوزبكستان.
وتقع مدينة سمرقند على خط سكك حديد بحر قزوين، وهي أحد المراكز التجارية والصناعية والزراعية، مشهورة بتجارة القطن والحرير والمصنوعات الجلدية والآلات والمعدات والعربات.
وهي من أقدم مدن العالم، ورد ذكرها في قصص ألف ليلة وليلة، وهي من أشهر مدن آسيا الوسطى، بنيت على مدينة أفروسياب ويرجع تاريخها إلى حوالي 4 آلاف عام قبل الميلاد، غزاها الإسكندر الأكبر سنة 329 ق.م، وتعد ملتقى للحضارات الأوروبية والصينية، دخلت في الإسلام في القرن الثامن الميلادي وتأسس بها مصنع للورق، وهو أول مصنع من هذا النوع يقام خارج الصين. وقد ازدهرت كجزء من خراسان (784 999م)، وغزاها جنكيز خان ودمرها سنة 1220م.
وبلغت قمة مجدها كعاصمة لدولة تيمور لنك أحد قادة التتار خلال القرن الرابع عشر الميلادي، ثم خضعت لحكم الأوزبك كجزء من إمارة بخارى، إلى أن خضعت لنفوذ روسيا 1868م، وتحولت إلى جزء من الاتحاد السوفيتي (السابق) 1920 لتعود إلى جمهورية أوزبكستان بعد انهياره أوائل العقد الأخير من القرن العشرين.
من أشهر آثارها مسجد بيبي خان، وقبر تيمور لنك. بها متحف كبير، وجامعة أوزبك، ينتسب إليها العديد من الشخصيات والأعلام في مختلف الميادين. ومنهم نجيب الدين السمرقندي، صاحب كتاب “الأسباب والعلامات”، و”كتاب الأقربازين” (علم الدواء) وكتاب “أغذية المرضى”.
ويحمل اسم الدارمي أيضا شخص من ظرفاء مكة، على عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
الفقيه الزاهد
والدارمي إمام حافظ ومحدث كبير بشهادة العلماء والفقهاء، قال عنه الخطيب: “كان الدارمي أحد الحفاظ والرحالين، موصوفاً بالفقه والزهد والورع، وضرب به المثل في الحلم والعمل والعبادة والاجتهاد”.
وقال عنه أبو حاتم الرازي: “ثقة صدوق، عرف بالزهد” وأضاف: “البخاري أعلم من دخل العراق، ومحمد بن يحيى أعلم من بخراسان اليوم، ومحمد بن أسلم أورعهم، والدارمي أثبتهم”.
وقال رجاء بن مرجي: “ما رأيت أحفظ من عبد الله الدارمي”.
وقال عنه الإمام أحمد بن حنبل: “الدارمي إمام، عرضت عليه الدنيا فلم يقبل”.
قال محمد بن إبراهيم بن منصور الشيرازي: “كان الدارمي على غاية من العقل والديانة يضرب به المثل في الحكم والدراية والحفظ والعبادة والزهد، أظهر علم الحديث والآثار بسمرقند، ودفع عنهما الكذب وكان مفسرا كاملا، وفقيها عالما”.
ويرى ابن حجر: “أن سنن الدارمي من كتب السند الأصول أو الصحاح”.
وعدد كبير من الأحاديث التي وردت به مما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، أو جاء على شرطهما أو شرط أحدهما.
تعلم الإمام الدارمي على عدد كبير من العلماء الأعلام، منهم علي بن النضر بن شميل، ويزيد بن هارون، وسعيد بن عامر العقبي، وجعفر بن عوف، وزيد بن يحيى بن عبيد الدمشقي، ووهب بن جرير.
وحدث عنه من رواة السنة النبوية من أصحاب كتب الأصول، الأئمة مسلم بن الحجاج وأبو داود السجستاني، وأبو عيسى الترمذي، وأحمد النسائي، وحفص الأصبهاني، وعبد الله بن أحمد بن حنبل وعيسى السمرقندي.
مواقع النشر (المفضلة)