مدونة نظام اون لاين

صفحة 1 من 4 123 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 5 من 17

الموضوع: وقفة مع : السوسي عاشقا مزمنا *

  1. #1
    كبآآر الشخصيآت

    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المشاركات
    13,511
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي وقفة مع : السوسي عاشقا مزمنا *

    بداية

    كان من المفترض نشر الجزء الثاني من شعر ابو نواس وسيرته

    ولكن سأقوم بتأجيل ذلك فيما بعد ...لعدم جاهزية الموضوع كما أريد


    واليوم نقف وقفة تبجيل وتعظيم للشاعر حسن احمد السوسي

    _الشاعرُ كائنٌ استثنائيُّ يعيشُ على ما في الحياةِ من جمالٍ .. فإن لم يجدْهُ ابتدعَهُ بنفسِهِ .. بلِ الشاعرُ يرتقُ ثقوبَ الحياةِ .. ويجمِّلُ ما فيها من قبحٍ وبشاعةِ .. وكلماتُ الشاعرِ الحسَّاسةِ مرهمٌ عجيبٌ يداوي عذاباتِ الأعماقِ ، ويأسو جراحَ النفوسِ .. ويُسْكِتُ وجعَ القلوبِ المثرثرةِ اشتياقاً جموحاً .. هكذا ـ ضبطاً ـ شاعرنا الكبيرُ حسن السوسي ..
    فهو يصحو عاشقاً .. ينفضُ قلبَهُ .. يتنفَّسُ حباً عميقاً ليطمئنَّ أنه لا يزالُ على قيدِ الحبِّ .. قيدِ الحيَاةِ الساحرَةِ الجميلةِ .. قبلَ أن يمضيَ أنيقاً متعطِّراً مترصِّداً حباً جديداً .. متربِّصاً بمعانٍ عصيَّةٍ .. متحيِّناً القصائدَ الفارِهَةَ المضيئةَ .. يمدُّ لها قلباً مملوءاً بالنورِ ليسقطَهَا في شغافِهِ ؛ ليعيدَ إنتاجَها ولهاً ولهفاً ودهشةً .. يقولُ السوسي من قصيدتِهِ ( الفروق ) :


    حسبي بأني شاعرٌ متربِّصٌ
    بالحسنِ أتبعُ خطوَهُ مترسِّما

    وأضيقُ ـ أحياناً ـ بهِ متبرِّماً
    وأشيدُ ـ أحياناً به مترنِّما

    لم أجنِ من ثمراتِهِ وطلوعِهِ
    ولئن غدوتُ بما أراه متيَّما



    قصيدة :الفروق ص 122

    القصيدةُ حسناءُ أخرى .. لهَا عطرُ الأنثى وحضورُهَا ، لها دلالُهَا وجمالُهَا وتبخترُهَا وتمنُّعُهَا ؛ فإذا أمطرتِ القصائدُ في أعماقِهِ اشتعلَ القلبُ شوقاً ، وفاضَ عطراً ونوراً لينثرَ الشعرَ ألحاناً نديَّةً فاتنةً ، وفراشاتِ نورٍ لا تتوقِّفُ عن مراودَةِ القلوبِ الظمأى لرحيقِ الشعرِ ؛ إكسيرِ الشعراءِ الأسطوريِّ .. والسوسي صيَّادٌ ماهرٌ للقصائدِ الحسانِ ، وللحسانِ القصائدِ .. ينصبُ قلبَهُ شركاً لهن كما ينصبُ شعرَهُ .. قصائدُهُ مصائدُ للحسانِ .. في كلِّ قصيدةٍ أنثى أو أكثر .. فالشاعرُ العاشقُ مفخَّخُ القلبِ بالهوى .. ينفجرُ شعراً وعشقاً لأدنى نظرةِ لهفٍ ، أو لمسةٍ دفءٍ .. أو همسةِ عشقٍ أو إسهامةِ طرفٍ طروبٍ ، أو التفاتةِ جيدٍ نافرٍ .. أو رنَّةِ كعبٍ أنثويٍّ ينثرُ العطرَ خلفَهُ ، ويثيرُ القلوبَ والعقولَ ..!



    وأسماءُ الحسانِ في قاموسِهِ الشعريِّ لا حصرَ لها ، فهو تارةً يداعبُ ( إلهام ) يطالبُهَا بأن تجودَ بما يستعينُ عليهِ في صناعةِ القصيدةِ من دلالٍ وجمالٍ وابتسامٍ وغيرِها من دواعي الحسنِ المغريَةِ للإلهامِ الشعريَّ بالحضورِ:

    شكراً فأنتِ لهذا الشعرِ إلهامُ
    تصبو إليهِ قراطيسٌ وأقلامُ

    فزوِّدينا بشيءٍ نستعينُ بهِ
    على صناعِتنا فالشعرُ ( إلهامُ )



    إمَّا هذه فلا تحلو الحياة إلاَّ بها ، فمن حلاوتِهَا أنَّها تقدِّم الشايَ مرَّاً
    فيغدو في أفواهِ العاشقينَ حلواً رائقاً :


    تقدِّمُ للضيوفِ الشايَ مرَّاً
    فيُشربُ لا يٌعابُ ولا يُذمُّ

    فإن حضرت يصيرُ المرُّ حلواً
    وإن غابت فما للشاي طعمُ


    ويقولُ عن ( إيمان ) التي أهدت إليهِ وردةً ذاتَ صبوةٍ :

    الوردُ أجملُ ما يُهدى وصاحبُهُ
    من أطيبِ الناسِ أخلاقاً وأردانا

    والشعرُ أخلدُ موهوبٍ لمحسنةٍ
    ألقوا عليها منَ الأسماءِ ( إيمانا )



    قصيدة: إحسان بإحسان ص 30
    أمَّا في قصيدةِ ( صحوة ) فيقولُ عن ( إيناس) التي أنعشَتْ أحاسيسَهُ وسلبَتْ مشاعرَهُ
    :


    أنعشتِ يا حلوةَ العينينِ إحساسي
    فإن صبوتُ فما في ذاكَ من باسِ

    بعثتِ بالكلماتِ الخضرِ ما فترت
    من همَّتي وأحاسيسي وأنفاسي

    فلو علمْتُ الذي أعلنتِهِ سلفاً
    إذن أتيتكِ حبواً أو على الراسِ!!

    ما دمتِ لي ليسَ إلاَّكِ ملهمةً
    فأنتِ مغنيتي عن سائرِ الناسِ

    لا فرقَ بينَ مشيبي وارتعاشِ يدي
    وبينَ حسنٍ وقدٍّ منكِ ميَّاسِ

    إن يَصْدُقِ الحبُّ بينَ اثنينِ يا أملي
    فلا مجالَ لإحباطٍ ولا ياسِ

    ( إيناسُ ) دنيايَ في صحوي وفي حلمي
    وصوتُهَا في اغترابِ الروحِ إيناسي




    قصيدة : صحوة ص 41
    وفي قصيدتِهِ ( وجعُ القلبِ ) يبوحُ بأسبابِ تداعي الشعراءِ المرهفينَ ،

    وما يعتريهم إن بدت لهم حسناءُ جميلةٌ :



    هكذا المرهفونَ والشعراءُ
    يتداعونَ إن بدت حسناءُ

    يعتريهُم تبلُّدٌ ووجومٌ
    تارةً أو تقلُّصٌ وانطواءُ

    ويموتُ الكلامُ فوقَ شفاهٍ
    يابساتٍ حديثُهَا تأتأءُ

    وجعُ الحبِّ في قلوبِ
    المحبِّينَ رمتنا بدائِهِ ( أسماءُ )

    كلُّ حبٍّ سوى الذي جرَّعتنا
    مقلتاها تكلُّفٌ وادَّعاءُ

    فهي تزهى بما لديها علين
    ا وهيَ فعَّالةٌ بنا ما تشاءُ




    والسوسي يبرِّرُ صبوتَهُ وتعلقَهُ بـ ( أسماء ) مستشهداً

    بما قالَهُ قبلَهُ عشَّاقٌ كبارٌ كشوقي والأخطلِ الصغيرِ ونزار قبَّاني ، يقولُ عنها :




    ( الصبا والجمال ملكُ يديها )
    والجفونُ الكحيلةُ الوطفاءُ

    وقوامٌ غضٌّ له مَيْسَةُ الغصنِ
    وجيدٌ لا تدَّعيهِ الظباءُ

    ولديها فراهةٌ وانبساطٌ
    ولدينا ترهُّلٌ وارتخاءُ

    بَعُدَ البونُ بينََنَا فَكتمْنَا
    ما وجدنَاهُ .. فالجراحُ ظماءُ



    فهوَ القائلُ موافقاً مروِّجَ الجمالِ الكبيرَ نزار قبَّاني ، مستشهداً بعجزِ بيتٍ لَهُ:


    خُلِقَ الشعرُ للجمالِ يغنِّيه
    ( وبعضٌ من الغناءِ بكاءُ )

    قدرٌ أن نحبَّهَا وقضاءٌ
    أن رمانا بمقلتيها القضاءُ

    وجميلٌ أنَّا نحبُّ وأنَّا
    للجميلاتِ والجمالِ فداءُ



    ويبرِّرُ لها عشقَهُ وافتتانَهُ قائلاً :

    نحن يا حلوتي فراشٌ ونارٌ
    كيف لا يجذبُ الفراشَ الضياءُ

    صدقَ القائلونَ فينا وفيهنَّ
    قلوبُ المتيَّمينَ هواءُ

    فارحمي ضعفَنَا حِيَالَ كنوزٍ
    أنتِ طرفٌ لها وأنتِ وعاءُ



    وأحياناً يخاطبُ سربَ جميلاتٍ مبرِّراً لهنَّ بعضَ انقلاباتِهِ غيرِ الصادقةِ ، ومشروعاتِ قلبِه في العزوفِ عن مطاردةِ الجمالِ ، ومشاكسةِ الحسانِ ، فيقولُ:

    قبل أن أبدأ عنكنَّ ،،انعتاقي وعزوفي
    قبل أن أبدأ إعراضي،، عنِ الجنسِ اللطيفِ
    قبلَ أن أكسرَ قيدي ،،قبل أن تذوي حروفي
    زوِّديني بحديثٍ ،،،،منكِ هفهافٍ خفيفِ


    ولا عجبَ في هذا التقديمِ الشائقِ الرائقِ في خطابِ حسناءَ جميلةٍ تغدقُ حسنَهَا الشفيفَ على قلبِ شاعرٍ في شتاءِ العمرِ .. في خريفِ العشقِ الرماديِّ:


    وإذا جدتِ بشيءٍ ،،ينعشُ الروحَ طريفِ
    فلكِ الشكرُ المثنَّى ،،عن مواساةِ الضعيفِ
    في شتاءِ العمرِ محتاجٌ،، أنا سترةَ صوفِ
    ولدفءِ النفسِ العطريِّ ،،،من ذاتِ شفوفِ
    لتكوني أنتِ ـ إنْ شئتِ ـ،،، وطوفي بي وطوفي
    واستقرِّي بي على،،، جدولِ شهدِ وقطوفِ
    أنا ظمآنٌ وجوعانٌ ،،،وفي جهدٍ عنيفِ
    زوِّديني واغنمي الشكرَ ،،،،من الصَّبِّ اللحُوفِ
    قبلَ أن تعصفَ بالقلبِ ،،،،أعاصيرُ الخريفِ



    قصيدة : إعلان 15 .
    ومطاردةُ الحسنِ مستمرَّةٌ معَ الشاعرِ العاشقِ الرافلِ قلبُهُ في دنيا الهوى والجمالِ ، وفي أمرعِ مراتعِهِ وأروعِهَا ، فهو في حيرةٍ شديدةٍ إزاءَ ظباءِ بنغازي ( برنيق ) وهنَّ يتجاذبْنَ قلبَهُ ، ويتنازعنَ حبَّهُ ، ويثرنَ مشاعرَهُ ، فهذه صغيرةٌ مشاغبةٌ تُدْعَى ( ليلى ) تُرَاوِدُ قلبَهُ ملوِّحةً بالهوى والصبا المغناجِِ ، مختبرةً قوَّةَ قلبِهِ على التخمينِ العاطفيِّ ، فلقلبِ العاشقِ بصيرةٌ نافذةٌ ، ولسانٌ مبينٌ ، يقولُ من قصيدتِهِ ( سرِّ ):



    بيني وبينَ الأعينِ النجلاءِ
    سرٌّ أضنُّ بهِ عنِ الإفشاءِ

    أصفيتهنَّ محبَّتي ومودَّتي
    وأذعتُ في ملكوتهنَّ ولائي

    كم حلوةٍ بيضاءَ سِرْتُ ورائها
    شوطاً ، وكم من حلوةٍ سمراءِ

    ورجعتُ مرتعشَ الجوانحِ مثقلاً
    بمشاعري ، متوتِّرَ الأعضاءِ

    غنِّيتهنَّ قصائدي ، وَلَهُنَّ من
    أوحى بكلِّ قصيدةٍ عصماءِ

    يمشينَ في حللِ الجمالِ روافلاً
    ويمسنَ من زهوٍ ومن خيلاءِ

    يجبرنَ بالنظراتِ كلَّ متيَّمٍ
    مثلي برفعِ الرايةِ البيضاءِ

    قد أورثت " برنيق " حسناوتِها
    فيما ورثنَ اللَّهوَ بالشعراءِ


    واستودعت أحداقهنَّ تمادياً
    في المكرِ ـ سرَّ السحرِ والصهباءِ



    لكنَّ ليلى الذكيَّةَ الجميلةَ التي ألغزت اسمَهَا لتلعبَ بقلبِ الشاعرِ حقيقةً ، ها هي تستحلبُ عاطفتَهُ ، وتمشِّطُ أعماقَهُ فيبوحُ لها بمكنوناتِهِ قائلاً :


    فلأنتِ يا أملي مدارُ قصائدي
    ولأنتِ يا حلمي مثارُ عنائي

    إن لم يكن لكِ ما أصوغُ رَوِيَّهُ
    فلمن تكونُ قصائدي وغِنائي ..؟!

    كلُّ الحسانِ سواكِ نظرةُ عابرٍ
    تكفي وأتركُ شأنهنَّ ورائي

    كم مرَّةٍ حاولتُ أن أفضي بما
    عندي ويمنعُ ما أريدُ حيائي

    " وقفٌ عليها الحبُّ " كلُّ جميلةٍ
    غنَّيتها هي أنتِ يا حسنائي



    وحينَ يتعلُّقُ بـ ( هديل ) ذاتِ الحسنِ الساحرِ ، والرقَّةِ الجذَّابَةِ ، فيقولُ عنها :



    ظبيةُ البانِ هديلُ ،،،ما لنا عنها بديلُ
    صاغَهَا اللهُ ملاكاً،، كلُّ ما فيها جميلُ
    ما لها بينَ الجميلا،، تِ نظيرٌ أو مثيلُ
    وهي قد كادت منَ،،، الرقَّةِ واللطفِ تسيلُ
    !!

    إمَّا تلكَ الفنَّانةُ الرقيقةُ التي جعلَتْ حسنَهَا هدفاً للشاعرِ باقترافِهَا رسمَ صورتِهِ ؛ وإهدائِهَا لَهُ ليطلقَ عليها عَيَاراتِ شعرِهِ ، راسماً حسنَها كيما ينبغي ، أو كما تبتغي هي :

    سَلِمَتْ أناملُكِ الرقيقةُ حينما
    صوَّرتِنْي ، وسَلِمْتِ يا ( سوزانُ)

    الرسمُ بالكلماتِ تعشقُهُ النُّهى
    وكمثلِهِ الفرشاةُ والألوانُ

    الشاعرُ الموهوبُ يزخرُ قلبُهُ
    بالحبِّ وهو مصوِّرٌ فنَّانُ

    وحكايةُ الفرشاةِ ذوقٌ رائعٌ
    هوَ عن مشاعرِ ربِّهِ إعلانُ

    لو أنني فتَّشتُ قلبَكِ ما بدا
    لي فيه إلاَّ رحمةٌ وحنانُ

    نطقتْ مشاعرُكِ الرقيقةُ بالذي
    فيهِ ، فعينُكِ للشعورِ لسانُ

    فسلمتِ لي .. وبقيْتِ كنزَ محبَّةٍ
    كشفتْهُ لي وجلتْهُ لي ( وجدانُ )



    قصيدة صورة : 16

    وهنا يطالبُ إحدى الجميلاتِ بزكاةِ الحسنِ هِبَةً منها لشاعرٍ ظامئِ الأعماقِ ، متلهفِ القلبِ للحسنِ ، محتاجٍ عَسِرٍ
    :



    قمرٌ أنتِ وهل يخفى القمرْ
    كلَّما أظلمت الدنيا ظهرْ

    ناشراً من حولِنا أنوارَهُ
    إنَّ في أنوارِهِ يحلو السمرْ

    أنتِ يا ( أنتِ ) ملاكٌ طاهرٌ
    تتجلَّى فيهِ للحسنِ صورْ

    وجهُكِ الحلوصباحٌ مشرقٌ
    وأنا أهوى الصباحاتِ الغررْ

    وعلى عودِكِ يا فاتنَةُ
    شَفَّني الزهرُ وأغراني الثمرْ

    وعلى ثغرِكِ لاحتْ بسمةٌ
    حبَّذا يا حبَّذا تلكَ الدررْ

    أنتِ قد علَّمتِ قلبي ما الجوى
    أنتِ قد علَّمتِ جفني ما السهرْ

    قدرٌ أنَّا التقينا مرَّةً
    في رحابِ الدارِ والحبُّ قدرْ

    نحنُ يا حلوةُ ما أحوَجَنا
    ليدٍ تسندنَا عندَ الكبرْ

    فامنحينا ـ مرَّةً ـ واحتسبي
    أجرَها ـ إن شئتِ ـ فيما يُدَّخرْ

    واجعليها من زكاةِ الحسنِ أو
    هِبَةً منكِ لمحتاجٍ عَسِرْ



    ـ إمَّا ( عواطفُ ) التي تفسدُ عليه توبَتَهُ واستقامَتَهُ كلَّمَا تهيَّأَ للاستقامَةَ ، وأدارَ قلبَهُ عن ملاحقَةِ الحسَانِ ، والتكلُّفِ بهنَّ ؛ يقولُ عن ( عواطف ) الرقيقةِ الرشيقةِ :


    قلت ارعويتُ عنِ التوجُّدِ والهوى
    ونأيتُ عن بحرِ الغرامِ الجارفِ

    حتى التقيْتُ بها فعاودني الجوى
    فرجعتُ أبحثُ عن صِبَايَا السالفِ

    هيهات تصلحٌ توبةٌ وإنابةٌ
    ما دامَ في الدنيا كمثلِ (عواطفِ )



    أو تلكَ التي ذبحتْهُ فلم يخبرْ بهَا ، بل كنَّى عنَها بصفاتِهَا فهي قمرُهُ الضحويُّ الأحلى من كلِّ الأقمارِ الليليَّةِ :

    إنني شاهدت في رَأْدِ الضحى
    قمراً من شرفَةِ الغيبِ اطلاَّ

    زعموني كاذباً إذ أنَّهم
    ألفوا الأقمارَ أنْ تطلعَ ليلا

    قمري أحلى وأغلى قيمةً
    إنَّهُ ( ....... ) فهل شاهدتَ ( ..... )

    أيُّ حسناءَ ترى تحسبها
    للتي أقصدها ندَّاً ومثلا

    كلُّ ما قلناهُ فيهنَّ سُدىً
    لم يكن حقاً ، ولكنْ كانَ دَجْلا

    هيَ من في الحسنِ إن نافسنها
    دائماً كان لها القِدْحُ المعلَّى

    في معانيها الهوى تيَّمنا
    وهيَ من عشَّاقِهَا تضحكُ جذلى

    ذبحتْنَا وَصَمَتْنَا لم نقلْ
    إنَّها تغتالُنَا ذَبْحاً وَقَتْلا

    أتعسُ الناسِ محبٌّ يكتوي
    والذي يهواهُ خالٍ يتسلَّى

    وهو يدري أنَّهُ يعشقُهُ
    ولذا يوسعُهُ صدَّاً ومَطْلا



    وعن ( أملٍ ) التي فتَّحَتْ لَهُ أبوابَ أملٍ كذوبٍ ضخَّ في خريفِ العمرِ بعضَ انتشاءٍ ، يقولُ:


    فتحتِ له كوَّةً في جدارِ
    القنوطِ وأشرعتِ باباً قُفِلْ

    وقد كانَ قبلَكِ يلبسُ ثوبَ
    الرياءِ ويلعبُ دورَ ( البطل )

    يشدُّ على شغرِهِ بسمةً
    مزوَّرةً ورضىً مفتعلْ

    يلملمُ ما لا يريدُ بهِ البوحَ
    يكتمُ في الصدرِ جرحاً نَغَلْ

    يعيشُ معَ الناسِ لكنَّهُ
    عنِ الناسِ منفردٌ منعزلْ

    فسوَّيتِ أنتِ لهُ رفرفاً
    منَ الياسمينِ كعشِّ الحجلْ

    فعادَ بهِ العمرُ خمسينَ عاماً
    وعادَ إليهِ الهوى والغزلْ

    رددتِ إليهِ فضولَ الشبابِ
    فعادَ الشبابُ وعادَ الرجلْ

    تعهَّدْتِ فيهِ الذي قد ذوى
    وأنعشتِ منهُ الذي قد ذبلْ


    فصارَ اضطراباً خمودُ الحيَاةِ
    وصار اصطخاباً جمودُ الطللْ





    قصيدة: الأمل ص 133

    وهو هنا يهتزُّ في حضرةِ الحسنِ البديعِ كريشةِ عصفورٍ
    في مهبِّ الرياحِ حينَ يمرُّ بزهرةِ الدارِ ( فوز ) فيبوحُ لنا

    ولها بصراحَةِ عاشقٍ لا بدَّ لَهُ من مصابَحَةِ الجمالِ ،

    والذوبانِ في أتونِهِِِ بطواعيَّةٍ محبَّبةٍ:




    عوِّجوا فحيُّوا ( لفوزٍ ) زهرةِ الدارِ
    وصبِّحُوْهَا بباقاتٍ وأشعارِ

    قولوا لها : إننا يا حلوتي بشرٌ
    يهزُّنا الحسنُ يختالُ في الدارِ

    نهفو إلى ثمرٍ غضٍّ وفاكهةٍ
    وكم ظمئْنَا لذاكَ الكوثرِ الجاري

    ومرهفِ الحسِّ إنْ مرَّ الجمالُ بهِ
    يظلُّ ريشةَ عصفورٍ بتيَّارِ

    ما عاد عندي رصيدٌ أستعينُ بهِ
    على الحسانِ سوى بثِّي وأشعاري



    هذه الحسناءُ التي يبرِّرُ تعلُّقَهُ بها بعدِّةِ مبرِّراتٍ يسوقُهَا في فنيَّةٍ عاليةٍ ،

    ورومانسيَّةٍ مدهشةٍٍ ، مستذكراً بمرورِهَا مقولةَ بشَّارٍ ابنِ بردٍ الشعريَّةَ

    وعشقِهِ سماعاً لامرأةٍ ما ، فيقولُ :




    إنِّي تذكرتُ فيها ـ حينما عبرت
    مقولةً وردتْ في شعرِ ( بشَّارِ )

    " يا قومُ أذني لبعضِ الحيِّ عاشقةٌ"
    فكيفَ لو كانَ ذا شوفٍ وإبصارِ

    إذن لتيَّمَهُ منها ولوَّعَهُ
    غصنٌ ينوءُ بأثقالٍ وأوقارِ

    ووجنةٍ خالَها يوحي لناظرِهِ
    بقطرةٍ من يراعِ الكاتبِ القاري

    أو أنَّه نحلةٌ في وردةٍٍ علقت
    أو مسكةٌ لزِقَتْ في كمِّ عطَّارِ

    ومبسمٍ نمَّ عن صفَّينِ من دررٍ
    وتوتينِ هما من بعضِ أوطاري

    وتوأمانِ إذا مارا وإن سكنا
    كانا محطَّةَ أفكارٍ وأنظارِ

    ونكهةُ الخمرِ في فيها منعنعةٌ
    تردي العقولَ بتخديرٍ ودوَّارِ

    قد أحسنَ اللهُ بالعميانِ إذ حجبَتْ
    عنهم محاسنُ هذا الشادنِ ( الضاري )



    والشاعرُ العاشقُ لا يتقادَمُ قلبُهُ ولا يتقاعَدُ .. وفي لحظةِ زيفِ يدَّعي العاشقُ أنَّهُ طوى صفحاتِ الأمسِ متبرِّئاً من عشقِهِ ومن قلبِهِ ، منكراً نساءَهُ اللواتي يلهمْنَهُ القصيدَ المسرَّجَ ، ويُنخنَ لهُ مطيَّ الخيالَ المجنَّحِ ، ويعبِّئنَ قلبَهُ بالأمانيِّ الأبكارِ ، يقولُ :


    فقلْ للمغرياتِ لنا
    طوينا الدرجَ والطرسا

    وجدنا الآنَ أنفسَنَا
    وكنا العميَ والخُرْسا

    فقد أرهقنَنَا طيَّاً
    وقد أبلينَنَا لبسا

    وكنَّ صواحباً ذللاً
    فبتنَ نواشزاً شمساً

    رَكِبْنَ ظهورَنَا حتى
    بلغنَ النجمَ والشمسا

    فإن أعرضْنَا عنا الآنَ
    لم نأسفْ ولم نأسى


    ويبقى كلامُ العاشقِ المزمنِ ـ في لحظةِ إنكارِهِ ـ مجرَّدَ ادَّعاءٍ عقيمٍ ، فما ينفكُّ قلبُهُ الآبِقُ المارقُ ينسفُ كلَّ مقرَّراتِهِ ، ويلغي كلَّ مخطَّطاتِهِ فيستثني من جمعِ الحسَانِ المتبرَّإِِ منهنَّ بعضاً ممِّن يفرضنَّ حضورَهُنَّ في قلبِهِ وعليهِ :

    وتبقى ـ بعدُ ـ واحدةٌ
    جعلناها لنا قدسا

    فلم نرَ في مودَّتها
    لنا شكاً ولا لبسا

    فذاتَ ( الأوبل ) الزرقاءِ
    تبقي الودَّ والأنسا

    سنبقيها لأوجاعِ الجوى
    ـ إن عاودت ـ نطسا

    ونجعلُ من صداقتها
    رجاءً يمحقُ اليأسا

    وفي الإعلام ِواحدةٌ
    جعلناهَا لنا مرسى

    وفي الآثارِ ثالثةٌ
    سأهمسُ باسْمِها هَمْسا



    والعاشقُ المهزومُ أمامَ صبوَاتِ قلبِهِ ، يستنجدُ بصبحِهِ ومسَاهُ لإعانتِهِ على قلبِهِ المارقِ في محاولَةٍ عبثيَّةٍ للاستعانةِ بالزمنِ ممحاةً للنسيانِ لطمسِ تخطيطاتِ الهوى على قلبِهِ:


    فيا صبحي إذا أضحى
    ويا ليلي إذا أمسى

    أعيناني علي قلبي
    عساهُ الآنَ أن ينسى



    وقلبُهُ المراوغُ لا يتعفَّفُ عن مقارفةِ الهوى فيسبقُهُ إلى عِنَاقِ الحسانِ .. يشنِّفُ قلبَهُ بهمساتِهنَّ الدافئاتِ .. لكنَّهُ قد يتجافى عنِ الاعترافِ بإحداهنَّ محاولاً إنكارَ معرفَتِها فيبوحُ ـ دونَ أن يدريَ ـ بأسرارِهِ في الهوى ، ويفشي كثيراً منَ الأسماءِ يختزنُهَا قلبُهُ المؤثَّثُ بالجميلاتِ :

    من أنتِ إني قد نسيتكُ فاعذري
    لستِ الوحيدةَ في صحائفِ دفتري

    كم فيه من ( ليلى ) تطلُّ بوجهِهَا
    بينَ السطورِ وكم به من ( كوثرِ)

    لا أذكرُ الأسماءَ فهي كثيرةٌ
    مثلَ النجومِ تلوحُ تحتَ المجهرِ

    في كلِّ سطرٍ منه خطرةُ حلوةٍ
    كانت على عهدِ الشبابِ المزهرِ

    معروفةٌ بسماتِها وصفاتِها
    لا باسمِها المتواترِ المتكرِّرِ


    ولكلِّ حسناءَ منهنَّ رمزٌ يعرفُهَا بِهِ
    ، أو علاماتُ جمالٍ فارقةٌ تبوحُ باسمِهَا ، وتعلنُ عنها :

    إني جعلتُ لكلِّ واحدةٍ بهِ
    رمزاً يذكِّرني إذا لم أذكرِ

    فهناكَ صاحبَةُ الوشاحِ الأحمرِ
    وهناكَ صاحبَةُ الشريطِ الأخضرِ

    وهناكَ من نقشَتْ على فستانِهَا
    حرفينِ قالا كلَّ ما لم تذكرِ

    ومليحةٌ سَحَرَتْ بوجهٍ أسمرٍ
    حلوٍ وقد أسَرَتْ بطرفٍ أحورِ

    وجميلةٌ خَطَرَتْ بغضٍّ مزهرٍ
    فتأوَّدَ الغصنُ الذي لم يزهرِ

    نطقت فكانَ لجرْسِهَا وحديثِهَا
    في مسمعي صدىً كلحنِ المزهرِ




    لا لومَ على الشاعرِ فقدِ اكتضَّت دنياهُ بالغيدِ الحسانِ ، وازدحمَتْ بالجميلاتِ الفاتناتِ ، كما امتلأتْ أجندةُ قلبِهِ بأسمائِهِنَّ ووجوهِهِنَّ:

    دنيا منَ الغيدِ الحسَانِ تزاحمَتْ
    في خاطري وتلاحمت في أسطري

    متناثراتٍ في سماءِ مشاعري
    متزاحماتٍ في دروبِ تفكُّري

    في بعضِهِنَّ ملاحةٌ مشهودةٌ
    ولبعضِهِنَّ ملاحةٌ لم تظهرِ

    والبعضُ زيَّنتِ الجمالَ بحسنِها
    والبعضُ زيَّنَهنَّ حسنُ تصوُّري

    أسماؤهنَّ تقاربت وتباعدت
    وغرامهنَّ بهمَّتي لم يفترِ



    وكتمانُ الهوى عبثٌ لا طائلَ منهُ ؛ فجميعُ أعضاءِ العشَّاقِ ألسنةٌ تثرثرُ مخبرةٍ عن تلبُّسِهمِ بالهوى ، والسوسي هنا محتارٌ بينَ جميلتينِ لا يدري لأيِّهما يميلُ قبلُهُ فيرهنُهُ لها :

    حاولتُ كتمانَ الجوى وجحودَهَ
    وأردتُ أن أطويهِ كي لا يعلما

    لكنَّ من عرفَ الحقيقةَ قال لي
    ( بادٍ هواكَ كتمتَ أم لم تكتماَ )

    حدثته عنها فقالَ معابثاً
    خصِّصْ فإنَّكَ قد بدوتَ مُعمِّما

    أعنيتَ ليلى بالذي أسمعتني
    أم غيرَها ؟ أم كنتَ تعني مريما ..؟

    فوجمْتُ عندَ سؤالِهِ وأجبتُهُ
    إني شربتُ الويلَ من كلتيهما

    أهوى التوائمَ منذُ يومِ ولادتي
    والمفرداتُ أحبُّ منها المبْسِما

    تكفي مشاهدتي ويكفي
    أنني بهما شغلتُ العاذلينَ وإنَّما ..



    المدنُ كالحسانِ تماماً لها جاذبيَّةٌ خاصَّةٌ وفتنةٌ لا تقاومٌ ، والشاعرُ العاشقُ يصوِّرُ مدنَهَ الجميلةَ الآسِرَةَ حساناً يتغزَّلُ فيهنَّ ، إذ لا يمكنُهُ بمعزلٍ عن الحسنِ والطهارةِ والنقاءِ ، فيترجمُ كلَّ الأشياءِ من حولِهِ إلى إناثٍ ينثرنَ العطرَ حولَهُ والجمالَ ، يقولُ متغزِّلاً في ( دارِ الأنس ) درنة من قصيدتِهِ (درنة والمهرجان) في خمسينيَّةِ الشاعرِ الراحلِ إبراهيم الأسطى عمر:

    في غيرِ عينيكَ لا يحلو لنا الغزلُ
    وفي سَواكِ حديثُ الحبِّ مُفْتَعلُ

    أحلى الكلامِ كلامٌ لا نبوحُ بِهِ
    لكنَّمَا هو بالعينينِ يُخْتزلُ

    بالشوقِ جئناكَ يا أحلى مدائنِنا
    هل يطفئُ الشوقَ إلا الضَّمُ والقِبَلُ ؟

    يا موطنَ الصَّبَوَات الخضرِ يا بلداً
    نشتاقُهُ .. وهو في وجدانِنَا وَشَلُ

    جئْنَا نجدِّدُ من أيامٍ صبوتِنَا
    فهل تعودُ لنا أيامُنَا الأُوَّلُ ؟

    حيثُ الصبا مورِقُ الأفنانِ مزدهرٌ
    وحيث نحن على جَدْواهُ نتَّكلُ

    إذا أصبَى موضعٌ ناساً تلبَّسَهم
    حتى وإن بَعُدُوا عنه .. وإن رحلوا

    وقد يطولُ غيابُ العاشقينَ مدىً
    لكنهم ـ أبداً ـ عن حبِّهم شُغِلوا

    تُلْغى المسافاتُ إن جئنا نيمِّمُها
    وتستقيمُ لنا .. أو تقصُرُ السُّبلُ

    إذا مررْنَا بها ـ يوماً ـ تهيجُ بنا
    شوقاً وجرحُ الهوى هيهاتَ يندملُ



    وما أعجبُ لَهُ هو أنَّ مدناً يقالُ فيها مثلَ هذا الشعرُ الجميلُ كيفَ لا تنقشُهُ بماءِ الذهبِ على مداخلِها وبوَّابِاتِهَا الرئيسَةِ ، بل كيفَ لا يكونُ نشيداً محلَّياً لها ..؟ وكيف لا يكونُ محفوظاً في قلوبِ أهلِهَا ، وعلى ألسنةِ أبنائِهَا ، استمعوا ماذا يقولُ عنها بكلِّ فراهَةِ الكلماتِ وقداسَةِ المعاني:

    فكيف ننساك يا أحلى أحبتنا
    وكلُّ شيءٍ سوى النسيانِ مُحتملُ

    ثلاثةٌ لم تزلْ كالوشمِ باقيَةٌ
    بطحاءُ وادِيكِ والشلالُ والجبلُ

    والبحر تحتكِ مُنْسَاحٌ .. ومختلجٌ
    كأنَّهٌ عاشقٌ .. يحبو .. ويبتَهِلُ

    لِموجهِ في حواشي الشطِّ همهمَةٌ
    فهل ترى وشوشاتٌ تلكَ أمْ قُبلُ ؟

    جئنَا على البحرِ البسيطِ فَمٌ
    يشدو غناءً ، وقلبٌ راقصٌ جذلُ

    شراعُنَا يتهادى فوقَ لُجَّتِهِ
    والبحرُ من تحتِهِ يَعْنُو ويمتثلُ



    ويصوِّرها أميرةً يصنعُ لها من طبيعتِهَا الخلاَّبَةَ تاجَهَا الماسيَّ وَعرشَهَا ومتَّكأَها الوثيرَ الأثيرَ ، يحرسُهَا العاشقانِ: البحرُ والجبلُ ، مسوِّراً هذا الجمالَ البارعَ بأورادِها وأزاهيرِها :

    أميرةٌ تاجَهَا ماسٌ ، وسدَّتُهَا
    فيروزةٌ ، وحلاها وردُهَا الخضلُ

    لها منَ المُخملِ الموشيّ متكأٌ
    وحولَهَا الحارسانِ : البحرُ والجبلُ

    إذا الضحى مرَّ ملهوباً بشرفَتِهَا
    صحتَ ، وقامَتْ بماءِ الزهرِ تغتسلُ

    كم حلوةٍ نتغاضى عن ملاحتِهَا
    ما كلُّ حسناءٍ فيها يلبقُ الغزلُ

    في غيرِ درنَةَ قد نُلقي قصائدَنَا
    كما تكونُ .. وفيها الشعرُ ينتخلُ

    وربما كثرت ـ في غيرِ سيرتِهَا
    منا الزحافاتُ ، والأعذارُ ، والعللُ


    ثمَّ يمضي في إطراءِ حسنِهَا ، ورسمِ آياتِ جمالٍِها ، وتعديدِ مفاتنِها برومانسيَّة بارعةٍ ، وعبر كلماتٍ شفيفةٍ تحسدها عليها كلُّ المدنِ ، كلُّ الحسانِ:

    ثلاثة لم تزلْ كالوشم باقيَةٌ
    بطحاءُ واديكِ والشلالُ والجبلُ

    مهابطُ الوحي فيها غيرُ آسنَةٍ
    والملهماتُ العيونُ النجلُ والخصلُ

    والياسمينُ مكاتيبٌ مضمَّخةٌ
    من نشرِهَا كلُّ أصحابِ الهوى ثَمِلوا

    والسَّامِرُونَ على ألحانِ ساقيةٍ
    والأمسياتُ التي بالطيبِ تنهملُ

    لم أدرِ ماذا سباني من خصائصِهَا
    فكلُّ شيءٍ هنا في الحسنِ مُكْتَمَلُ

    ترى بساتينَهَا الغنَّاءَ وارِفةً
    أمِ الكرومُ وما عرَشَنَ .. والظلُ ؟

    أم العيونُ ؟ وما أدراكَ ما فعلت
    بنا العيونُ التي بالسحرِ تكتحلُ

    أم في شفاهِ الصبايا الغيدِ ما اكتنزت
    إلاَّ لأن لمَاها الخمرُ .. والعسلُ

    أم في حمائمِهَا البيضاءِ ما خطرت
    إلا وشدَّت نطاقاً حولَها المقلُ

    يدرجْنَ فوقَ رصيفِ الجسرِ في مَهَلٍ
    مستأنياتٍ .. كما يمشي الوجِي الوحِلُ

    على العجيزةِ ـ للتمويهِ ـ ما حمَلَت
    وما سوى بُقجِ الدِّيباجِ مُحْتَمَلُ

    ينِمُّ عنهُنَّ بوْحُ المسكِ تنفَحُهُ
    نسائمُ العصرِ ، أو يسري به الطَّفَلُ

    وربما نم عن حسنٍ سترنَ يدٌ
    بالنقشِ مخضوبةٌ .. أو معصمٌ عَبلُ

    منهنَّ واحدةٌ ما زلتُ أذكرُهَا
    من أربعينَ ـ وفيها القلبُ منشغلُ

    وما أبَرئ نفسي إنني بشرٌ
    والحسنُ فتنةُ من شبَّوا ومن كَهُلُوا

    ملازِمٌ طيفُها قلبي .. وصورتُهَا
    كأنَّ قلبي لها منفىً ومُعْتَقلُ

    والشعرُ والحبُّ صِنْوَا لحظةٍ وُلدا
    فليسَ إلا بهذا ذاكَ يكتملُ




    أجل ، بالحبِّ والشعرِ عاشَ السوسي .. فهما عندَهُ توأمانِ متلازمانِ ، بهما ـ معاً ـ صنعَ ربيعَه الخاصَّ ، ورسمَا له طريقَ مجدِهِ الأدبيِّ .. فالحبُّ ربيعُ الحياةِ ، مثلما الشعرُ ربيعُ اللغةِ .. السوسي الشاعرُ العاشقُ الخجولُ قامةٌ شعريَّةٌ سامقةٌ ، واسمٌ شعريٌ قد لا يتكرَّرُ حتى وإن كانت عيونُ النقادِ قد غفلت أو تغافلَت عن تجربتِهِ الشعريَّةِ المتميِّزةِ بمفرادتِها ، وحفاظِهَا على رصانةِ القصيدةِ العربيَّةِ معَ تجديدِ الموضوعِ وعصرنَةِ الأحداثِ والألفاظِ .. فالأقلامُ النقديَّةُ ـ محلياً وعربياً ـ على كثرتِها ، لم تنتبهْ بشكلٍ يليقُ باسم السوسي الكبيرِ الرقيقِ وجمالِ شعرهِ ، ورقةِ أسلوبِهِ ، وطولِ نفسِه ، وغزارَةِ شعرِهِ ، وتنوُّعِ موضوعاتهِ وحساسيَّتِهِ المفرطةِ وشساعَةِ قلبِهِ .. وغناءِ تجربتِهِ ونضوجِهَا المبكِّرِ ، وثراءِ لغتِهِ ، واتساعِ قاموسِهِ الشعريِّ على نحو مبهرٍ ..
    لكنَّ الحدائقَ وهي ترسلُ عبيرَها الآخَّاذَ خطاباتِ محبَّةٍ ، ورسالاتِ عناقِ ، دعوَاتٍ مفتوحةً لعناقِ الجمالِ ؛ لا تصرخُ في أسماعِ الصمَّ العميَ أن تعالوا لعوالمِ حسني ومدائنِ دهشتي .. فعيونُ عبَّادِ الشمسِ لا تخطئُ النورَ البهيَّ .. مثلما الفراشاتُ تماماً ، والنحلُ لا يجدُ صعوبَةً وعسراً في تقفِّي عذوبَةِ الرحيقِ ..
    وبرغمِ هذا سيظلَّ السوسي ، مروِّجُ الجمالِ المثيرُ ، صاحبَ شعرٍ لا ينتهي بالتقادمِ .. وصاحبَ قلبٍ لا يغفلُ عنِ مقارفةِ الهوى .. قلبٍ لا يغفو إلاَّ على همسَةِ عشقٍ ، ولا يصحو إلاَّ على نفحةِ هوىً ، ولفحةِ غرامٍ دفيئةٍ .. وفيّاً للحبِّ الطاهرِ النقيِّ .. ظلَّ يمضي نحوَ جزرِ العشقِ بقامةٍ مديدَةٍ .. هناكَ بينَ عشاقِها الكثيرينَ ، يبيعُ للريحِ صوتَهُ لقاحاً لقلوبٍ ظِماءٍ للهوى .. مشرعاً نوافذَهُ للضوءِ والعطر والحلمِ ، فاتحاً قلبيهِ .. قلبِِِِ الإنسانِ فيهِ ، وقلبِ العاشقِ المدمنِ ؛ للنورِ والحبِّ والأمنياتِ ، يقايضُ الحياةَ بشعرِه الفتيِّ الجميلِ .. ويقاومُ الموتَ بحبِّهِ الباقي .. ناشراً قصائدَهُ راياتِ هوىٍ .. ولافتاتِ اشتياقِ ، وبيارقَ أملٍ طروبٍ .. مفسحاً في ضيقِ الحياةِ براحاتٍ للحلمِ والانطلاقِ .. مشعلاً في سراديبِهَا الداكنةِ شموساً وأقماراً وآمالاً وسيعةً بديعةً .. فالعشَّاقُ الكبارُ يتعكَّزونَ قلوبَهُم في سراديبِ الحياةِ متلمِّسينَ الجمالَ شعراً وسحراً واندهاشاً وانتشاءً ..

    * حسن أحمد السوسي ، شاعر ليبي كبير ، انتقل إلى جوار ربه الأيام القليلة الماضية .
    * نشرت هذه القراءة في مجلة الجليس الليبية ، العدد ( الثالث




    نقله لكم : ظميان غدير

  2. #2
    مشرف سابق

    تاريخ التسجيل
    Dec 2009
    المشاركات
    4,138
    معدل تقييم المستوى
    6

    افتراضي







    شَاعِرٌ غَارقٌ بِ الحُبْ وَ عَازِفٌ مُختلِفْ
    يَعَرفُ كَيفَ يَجعلنْا نُبحرُ بَينَ نُصوصَهُ دُووونَ تَوقفْ
    شُكراً شَاعرنْا المُترفُ حِساً وَ ذائِقَة عَلىَ طَرحِكَ الجَميّلْ لِ هَذه
    الشَخصيّة المُتمَيّزَة شِعرياً وَ أَدامَ الله وُجودكْ
    وِديّ وَ إِحتِرامِيّ لكْ



  3. #3
    ... V I P...


    تاريخ التسجيل
    Jul 2008
    الدولة
    بعيــداً عن الواقـع
    المشاركات
    4,322
    معدل تقييم المستوى
    6

    افتراضي رد: وقفة مع : السوسي عاشقا مزمنا *

    شاعر جميل..وقصائده رائعه

    الله يرحمه

    مشكوور حيل ظميان..عرفتنا ع شاعر كنت اجهله بكل صدق..
    كل التحايا العذبه لك ع نقلك المميز..

    لاهنت

  4. #4

    ][ عــضـو التـميـز ][


    تاريخ التسجيل
    Sep 2009
    المشاركات
    2,028
    معدل تقييم المستوى
    3

    افتراضي رد: وقفة مع : السوسي عاشقا مزمنا *

    ابيات غايه الروعه ويعطيك العافيه ظميان ع النقل

    كم هي جميله قصائده

    تحياتي لك

  5. #5
    كبآآر الشخصيآت

    تاريخ التسجيل
    Dec 2005
    الدولة
    بين دجله والفراات
    المشاركات
    12,343
    معدل تقييم المستوى
    15

    افتراضي رد: وقفة مع : السوسي عاشقا مزمنا *

    تصدق توونى اقراا عن حيااته واشعااره كنت بس اسمع عنه

    ابياات راائعه كثييير

    له خصووصاا هالقصيده


    عوِّجوا فحيُّوا ( لفوزٍ ) زهرةِ الدارِ
    وصبِّحُوْهَا بباقاتٍ وأشعارِ

    قولوا لها : إننا يا حلوتي بشرٌ
    يهزُّنا الحسنُ يختالُ في الدارِ

    نهفو إلى ثمرٍ غضٍّ وفاكهةٍ
    وكم ظمئْنَا لذاكَ الكوثرِ الجاري

    ومرهفِ الحسِّ إنْ مرَّ الجمالُ بهِ
    يظلُّ ريشةَ عصفورٍ بتيَّارِ

    ما عاد عندي رصيدٌ أستعينُ بهِ
    على الحسانِ سوى بثِّي وأشعاري


    روووعه بصرااحه

    يسلمواا شااعرناا مجهوود راائع يستحق التقيييمـ






المواضيع المتشابهه

  1. السوسي عاشقا مزمنا **
    بواسطة ظميان غدير في المنتدى قصائد وخواطر
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 26-04-2009, 06:24 AM
  2. وقفت كل العيوووون وقفت والكل يسأل ياترى من ذي تكون!!!
    بواسطة *_miss nice_* في المنتدى الارشيف
    مشاركات: 22
    آخر مشاركة: 07-03-2008, 02:05 AM
  3. أجيبوا عاشقا يهذي ،، يعاني قسوة الهجر ِ
    بواسطة ظميان غدير في المنتدى الارشيف
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 05-07-2007, 02:00 PM
  4. «السوشي».. طعام سرقه الأغنياء من أفواه الفقراء
    بواسطة حبيبتي حطمتني في المنتدى عالم حواء
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-12-2006, 06:11 PM
  5. عاشقا مع وقف التنفيذ ....
    بواسطة الفارس في المنتدى قصائد وخواطر
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 27-03-2005, 10:13 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •