الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله المصطفى الأمين نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم . أما بعد :
فمرَّ عشرون عاماً على تولي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - حفظه الله - مقاليد الحكم ، وقد تحقق في عصره الميمون الزاهر نهضةٌ في جميع أنحاء البلاد حتى أصبحت المملكة العربية السعودية في مصاف الدول المتقدمة ، وهذه مناسبة طيبة يسرّني أن أشارك فيها ، ويُعزِّز مشاركتي أن لدي من الإلمام والمعرفة عن خادم الحرمين الشريفين منذ حداثة سنه قدرًا أفخر به ؛ حيث كنت ضمن مجموعة نشأت في خدمة الملك فهد وإخوانه الأشقاء المعروفين بآل فهد بن عبدالعزيز منذ ما ينيف على ستين عاماً ؛ إذ أوكل إليَّ بعض المهام ، والذي أَطلق هذا الاسم(آل فهد ) هو الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أطلقه على البيت الذي تسكنه والدتهم الأمير حصة بنت أحمد بن محمد السديري رحمها الله.
الملك فهد بن عبدالعزيز - حفظه الله - هو من الشخصيات التي وهبها الله منذ صغر سنه رزانة العقل ، والتواضع ، وحسن التصرف ، والعاطفة التي تميز بها ، إضافة إلى مكارم الأخلاق الفاضلة ، وبره بوالدته ، والتواضع أمامها ، حيث إنه بعد زواجه الأول يأتي إلى والدته وإخوانه وأخواته الأشقاء في اليوم الواحد أكثر من ثلاث مرات ، ويرعى شؤون إخوانه ، ويرشدهم ، ويعطف عليهم ، وكأنه لهم والد حنون بار في معاملته معهم مع أنه - حفظه الله - يقدر الأسرة كافة كل تقدير ، سواء كانوا أعمامه أو إخوانه أو أبناء أعمامه ، ويكنّ لهم كل احترام ومحبة ، كما أن معاملته مع مرافقيه المعروفين بـ (الخوياء) هي معاملة الأخ لأخيه ، فلا يجرح شعور أحد منهم ، ولا يمس أحداً بأذى ؛ لأن لديه من التواضع ورزانة العقل ما يجعله لين الجانب ؛ إذ إنه يقدر كبير السن ، ويعطف على الصغير ، ويهتم بالفقراء والمساكين ، وهو يتمتع بخصال حميدة كثيرة ، فهو لا يقبل النميمة ، ولا التشهير ، ولا التجريح بأحد ، ولا يقبل التملق ، وكثرة المبالغة ، كما أنه يحب عمل الخير ، ويفضل ألاّ يطلع عليه أحد من المخلوقين ، ولا يحب أن يقول : عملنا لفلان ، أو أعطينا فلاناً ، فهذه من خصاله وأعماله الخيرة قبل أن يتولى أي منصب ، كما أنه لا يتجاوز الأنظمة أو الإخلال بها ، ويحرص أشد الحرص على عدم مخالفة ما يصدر من التعليمات من جلالة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ، وممّا يدل على ذلك أن الذين في القنص ويجتازون الدهناء إلى الصمان والدبدبة والحدود الشمالية إذا احتاجوا لبعض الأشياء الضرورية التي يتطلبونها يرسلون سيارة إلى الكويت لإحضار ما يحتاجون إليه ؛ لأنه - في ذلك الوقت - لا توجد مراكز بين المملكة والكويت تمنع السيارات ، وفي عام 1369هـ كان الملك فهد - حفظه الله - في القنص ، ومعه إخوانه الأشقاء الأمير سلطان ، والأمير عبدالرحمن ، والأمير تركي ، والأمير نايف ، والأمير سلمان ، والأمير أحمد ، وكانوا في الحدود الشمالية للقنص عند ذلك أمرني الأمير فهد أن أحضر بعض الاحتياجات التي يحتاجون لها ، وكان أقرب بلد لنا هو حفر الباطن ، ولم يكن فيه إلا قصر الإمارة والآبار التي تشرب منها البادية في الصيف ، فأمرني - يحفظه الله - أن أذهب إلى الكويت لإحضار هذه الاحتياجات ، وأن أذهب إلى أمير حفر الباطن حينذاك صالح بن عبدالواحد رحمه الله ، وأعطاني كتاباً لأذهب إلى الكويت في سيارة المركز ، وقد استغرب ابن عبد الواحد من طلب استخدام سيارة المركز ، وقال لي : " إنّ مخيم الأمير فهد مملوء بالسيارات التابعة لهم ، فكيف تحتاجون لسيارة المركز ؟! " ، فقلت لـه : " لا بد أن نظر الأمير فهد أبعد مما تتصوره ، وهو أدرى بذلك " ، وفعلاً ذهبت بسيارة المركز , وكانت أوامر الأمير فهد لي أنني حينما أشتري ما يلزم من احتياجات ، وأعود إلى حفر الباطن يجب أن أوقف السيارة في جمرك الحفر للاطلاع على ما تحتويه السيارة ، وهذا من بعد نظره يحفظه الله ؛ حيث رأى أنه لا يتجاوز الأوامر الصادرة من الملك عبدالعزيز حتى لا يقال : إن سيارات الأمير فهد دخلت الكويت ، وهرَّبت بضائع . وعندما أنهينا إجراءات الجمرك في حفر الباطن استلمنا بياناً من الجمرك ؛ ليطلع عليه الأمير فهد . وهذا مثال يدل على بعد نظره وحسن تصرفه بتطبيقه للأنظمة واحترامه لها ، والحقيقة أن هذا قليل من كثير ، ولو كتبنا ما نعلم عنه - يحفظه الله - من الصفات الجليلة والخصال الحميدة لملأنا الصفحات الكثيرة ، ولكن كما يقول المثل : " ما كل ما يعلم يقال " .
ونود أن نتكلم عن الوقت الذي تولى الملك فهد - حفظه الله - مقاليد العمل الحكومي ؛ إذ كان أول وزير للمعارف ، ونهض بالعلم في أنحاء المملكة ، وكان - حفظه الله - حريصاً كل الحرص على تأسيس وزارة المعارف على أسس متينة ، فعيّن الرجال المخلصين الذين تتحقق بهم التطلعات ، ويسيرون على توجيهاته حتى وصل التعليم في المملكة إلى ما وصل إليه من تقدم وازدهار ، كما أن أول جامعة أُنشئت في الرياض كانت زمن توليه وزارة المعارف ، وهي المعروفة اليوم بجامعة الملك سعود ، وعندما اكتمل البناء الأول لهذه الجامعة - التي كانت بدايتها بتبرع من سكان الرياض ومتابعة من أمين مدينة الرياض حينذاك الأمير فهد بن فيصل آل فرحان رحمه الله - أمر الأمير فهد أن يتسلّم الأستاذ ناصر المنقور الجامعة، وعين لها مديراً حينذاك هو عبدالوهاب عزام تحت إشراف وزارة المعارف، وتحققت الطموحات والتطلعات لسموه - يحفظه الله - بعد توليه منصب وزير المعارف ، فأنشئت العديد من الجامعات ، وعددها ثمان ، ووزعت فروعها في أنحاء المملكة حتى وصلت إلى هذا المستوى الذي وصلت إليه الآن من تقدم وازدهار ، واستمرت الرعاية الكريمة منذ أن كان الأمير فهد وزيراً للمعارف ، ثم ولياً للعهد ، ثم ملكاً على البلاد إلى يومنا هذا . كما أنه - حفظه الله - عندما تعين وزيراً للداخلية أرسى قواعد الأمن على أسس سليمة ، ونتج عن ذلك هذا الأمن والاستقرار الذي تعيشه بلادنا ، وبعد أن تعين - حفظه الله - ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء تحققت النهضة العظيمة للمملكة العربية السعودية في جميع المجالات التي عادت على البلاد بالخير حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من تطور وازدهار .
وقد كان من أهم المشروعات الخيرة والجبارة التي أولاها الملك فهد - حفظه الله - جل اهتمامه ، وأشرف عليها ، واطلع على مخططاتها ، وتابع مراحل تنفيذها شخصياً توسعةُ الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وإنشاء الطرق في مكة المكرمة ، ووضع الميادين ، وشق الأنفاق في الجبال ، كل ذلك اهتم به - حفظه الله - لخدمة الإسلام والمسلمين حجاج بيت الله الحرام الذي يصل عددهم إلى مليوني حاج سنوياً ، وكان من أهم المشروعات كذلك توسعة حرم المدينة المنورة وميادينها التي كلفت نزع ملكيتها مليارات الريالات ، كل ذلك بتوجيهاته وإشرافه حفظه الله ، كما أنه أضاف لبنة خير في المدينة النبوية بتأسيس مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة الذي طبع منه ملايين النسخ ، وتم توزيعها على العالم الإسلامي والمراكز الإسلامية في جميع أنحاء العالم بأرقى أنواع الطباعة والتجليد ، وكذلك طباعة تفسير القرآن الكريم بلغات عديدة، تم توزيعها للجاليات المسلمة في كل مكان ، وقد وجدت هذه المشروعات الخيرة كل الدعم والمتابعة والاهتمام والإشراف منه يحفظه الله ، حتى وصلت للمستوى المشرف ، فنالت هذه المشروعات الإعجاب لدى جميع المسلمين في كل مكان