فى بحث متهافت لإبراهيم أنيس:
القرآن لم يعرف الإعراب إلا بعد قرن من وفاة الرسول!
د. إبراهيم عوض
لا أستطيع أن أتذكر الآن فى أية ظروف قرأتُ كتاب د. إبراهيم أنيس: "من أسرار اللغة" وأنا طالب فى الجامعة فى النصف الثانى من ستينات القرن الماضى أيام كنت شابا صغيرا ينقل خطواته الأولى على طريق البحث العلمى، ولكنى أستطيع بسهولة أن أتذكر أننى لم أكن أنتهى من عنصر من عناصر بحث الدكتور عن أصل الإعراب فى لغتنا الشريفة، الذى يشكل فصلا من فصول ذلك الكتاب، حتى ينبثق فى عقلى للتو الرد على ذلك العنصر، إذ بدا لى الأمر كله سخيفا متهافتا، ومسيئا أيضا كما سوف يتضح فيما يلى من صفحات. صحيح أن دراستى هذه التى يطالعها القارئ العزيز الآن تحتوى على أشياء وتفصيلات لم تجر لى وقتذاك فى بال، إلا أن بعض الخطوط الرئيسية فى هذه الدراسة هى صدى لما ثار فى ذهنى أوانئذ. وحين دعانى صديقى وزميلى الأستاذ الدكتور محمد الحملاوى كعادته إلى الاشتراك فى مؤتمر تعريب العلوم هذا العام (1431هـ- 2010م) صحا منى العزم فجأة على معاودة القراءة فى بحث د. أنيس والكتابة عنه، فأنا أرى أن مثل تلك البحوث لا تكتب عادةً عفو البال، بل غالبا ما تكون لها أبعاد قد تدقّ فى أوليات أمرها فلا تلحظها العين لدى ميلادها، ثم إذا ما مرت السنون انفجرت كالقنابل الموقوتة.
والآن باسم الله الكريم نبدأ، فنعرف بالدكتور أنيس قبل الدخول فى موضوعنا، ونقول: وُلِد د. إبراهيم أنيس بالقاهرة في 1324 هـ- 1906م، والتحق بدار العلوم، وتخرَّج منها سنة 1930م ليعمل مدرّسا في المدارس الثانوية. ثم من جامعة لندن حصل على البكالوريوس سنة 1939م، فالدكتوراه سنة 1941م. وبعد عودته من أوروبا عمل مدرسا في كلية دار العلوم، وبعدها في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية حيث أنشأ بها معمل صوتيات. ثم عاد ثانية إلى دار العلوم، وترقّى في وظائفها إلى أن أصبح أستاذا ورئيسا لقسم اللغويات. ثم تولَّى العمادة وأُعْفِيَ منها بعد مدة، ليليها مرة أخرى، إلى أن قدم استقالته. وقد اختير أنيس خبيرا بمجمع اللغة العربية عام 1958م، ثم نال عضوية المجمع بعدها بثلاث سنوات. وهو أخو د. عبد العظيم أنيس، وابن عمة الممثل فؤاد المهندس، بل إنه هو نفسه مارس التمثيل وهو طالب بالجامعة. وله فى المجلات العربية عدد من البحوث والمقالات اللغوية، أما كتبه فمنها: "الأصوات اللغوية"، و"من أسرار اللغة"، و"موسيقى الشعر"، و"في اللهجات العربية"، و"دلالة الألفاظ"، و"مستقبل اللغة العربية المشتركة"، و"اللغة بين القومية والعالمية". وقد لبى الرجل نداء خالقه فى 20 جمادى الآخرة 1397 هـ- 8 يونيو 1977م.
وللدكتور أنيس دعوى غاية فى العجب أثبتها فى كتابه: "من أسرار اللغة" تحت عنوان "قصة الإعراب" ملخصها أن العرب لم يكونوا يعرفون الإعراب قبل نهاية القرن الأول وبداية القرن الثانى للهجرة، وأنهم كانوا يسكِّنون أوخر الكلمات دائما، اللهم إلا إذا التقى ساكنان يقع أولهما فى آخر كلمة، ويقع الثانى فى بداية الكلمة التالية، وأن النحويين المسلمين هم الذين اخترعوا ذلك الإعراب اختراعا بعد أن لم يكن فكان، وأن السبب فى ذلك أنهم ربما رَأَوْا تغير أواخر الأسماء فى اللغة اليونانية فحفزهم الأمر إلى أن يكون لهم فى نحوهم شىء مشابه لما عند اليونان، فكان ذلك الإعراب (انظر "من أسرار اللغة"/ ط2/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 182 وما بعدها على مدار بضع عشرات من الصفحات).
ومعنى ذلك أن القرآن قد تم العبث به وتحويله عن صورته الأصلية التى كان عليها إلى صورة أخرى لم يكن له بها قبل القرن الثانى الهجرى أىّ عهد. وفى هذا رَجْعُ أصداءٍ لما قاله بعض المستشرقين من أن القرآن حين نزل فى البداية لم يكن مسجوعا، ثم إن النبى بعد هذا قد غيره بحيث صار ذا فواصل (انظر ما كتبه المستشرق بوهل فى مادة "قرآن" فى "The Encyclopaedia of Islam: دائرة المعارف الإسلامية"/ ط1. وانظر تفنيدى لهذا الزعم المتساخف فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل"/ مكتبة البلد الأمين/ القاهرة/ 1419هـ- 1989م/ 7- 9). كذلك ففى بحث أنيس، فيما يبدو، رَجْعُ أصداء أخرى مما جاءت الإشارة إليه فى مقدمة ترجمة إدوار مونتيه الفرنسية للقرآن من أن ثمة بحثا كان قد كتبه ك. فولرز قبل ذلك بقليل عن "اللغة الشعبية المكتوبة فى الجزيرة العربية قديما" يقول فيه إن القرآن الكريم لم يكن مكتوبا قط على النحو الذى نقرؤه اليوم، ولكنه فى أقدم نسخة منه كان مكتوبا بلهجة مشابهة للهجات الحالية (انظر هذه العبارة فى ترجمتى للمقدمة المذكورة/ ص134 من كتابى: "المستشرقون والقرآن"/ دار القاهرة/ 1423هـ- 2003م). ولتوضيح رأى فولرز أسوق ما وجدته فى مقال كتبه Claude Gilliot بعنوان "Origins and Definitions of the Koranic Text". قال: "K. Vollers considers that the origin of the Koranic language is to be found in a dialect of western Arabia, in Mecca or Medina, reviewed in order to adapt it to the language of ancient Arab poetry". (وهذا رابط المقال على المشباك لمن يريد الرجوع إليه لقراءته والتحقق مما فيه بنفسه:- http://www.miradaglobal.com/index.ph...emid=9&lang=en). وهى لهجة غير معربة (uninflected Volkssprachen) كما أكد فولرز، المستشرق الألمانى الذى كان مديرا لدار الكتب فى يوم من الأيام وأحد الداعين الملتهبين إلى نبذ الفصحى والركون إلى العامية (انظر "A Comparative Lexical Study of Qur'ānic Arabic" لصاحبه Martin R. Zammit (ط. Brill, 2001, P. 40).
مواقع النشر (المفضلة)