والرثاء من أهم الأغراض الشعرية وأكثرها صلة بالنفس البشرية والتصاقاً بالوجدان الانساني، ومن أروع المراثي التي قيلت في الرثاء بعض قصائد رثائية تفردت بالتعبير الصادق عن الخوالج النفسية والنوازع الذاتية التي تمثل واقع دنيانا وما يحيطها من أكدار وما يكتنفها من مصائب ومنغصات، وانها اذا حملت المسرات حيناً أعقبتها حسرات في أكثر الأحيان، ومن أروع المشاعر التي يسجلها شاعر في رثائه فيعبّر عن مهجة محترقة وحزن عميق وحنين لا ينفد رصيده، ما قد يكون في رثاء الأولاد وهم فلذات الأكباد، ومن ذلك القصيدة التي قالها الشاعر أبو ذؤيب الهذلي في رثاء بنيه واستهلها بقوله:

أمن المنون وريبه يتفجع- - - - - والدهر ليس بمعتب مَنء يجزع
أودى بني و أعقبوني حسرة - -- -بعد الرقاد وعَبءره ما تُقلع
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم- - -واذا المنيّة أقبلت لا تُدفع
واذا المنية أنشبت أظفارها - - - -ألءفيت كل تميمة لا تنفع
والنفس راغبة اذا رغّبتها - - - -واذا تُرد الى قليل تقنع

فهذه القصيدة إلى جانب ما تنطوي عليه أبياتها من تفجع فإنها تشتمل على أبيات فيها جانب كبير من الحكمة كما في البيت الأخير بالذات وبعض أبياتها درجت مدرج الأشعار المتداولة.
"
ومساحة الحزن حين تبسط ظلالها الكثيفة على روح الشاعر فإنه ينسج من هذه الكثافة المعتمة صورة حزينة لقلب جريح بفقد عزيز عليه، فكيف اذا كان هذا العزيز هو ابنه الذي يكبر أمامه وتنمو مداركه تحت آماله ويعلّق عليه رجاءه بعد الله فاذا به يفقده في لمحة خاطفة مما يجهض آماله فيه ويقوّض تطلعاته نحوه، وتزداد الفجوة اتساعاً برحيل الفقيد وعدم ملئها لقلب الوالد المحزون بما يخفف لواعج الحزن ويأسو جراح الألم، فاذا كان الشاعر شديد الحساسية متوتّر الأعصاب مثل ابن الرومي فان تجسيد المصيبة يكون أبلغ وأعمق، فهذا الشاعر الموهوب يصوّر بالكلمة ما لا تستطيع تصويره الآلة المصوّرة، ويجسد الواقعة بكل أبعادها الحسية والمعنوية ومن جميع جنباتها في أبيات ملتاعة، ولذلك نجده عند وفاة محمد أوسط أبنائه في سنّ مبكرة جاشت أحاسيسه بالأحزان فاستنفرت شاعريته الخصبة فكان أن ترجم مشاعره الأبوية في قصيدة تنزف أبياتها بالدمع كما كان ابنه ينزف بالدم حتى فاضت روحه، والأب يشهد جسده تعتصره الأوجاع الشديدة وروحه كأنما تتساقط أجزاء من شدة النزع، وهذا المشهد المؤثر ينعكس على نفسية الوالد المشفق على ابنه المفارق له، وهو لا يملك شيئا ازاءه سوى أن يرسم اللوحة القاتمة لمشهد الموت على هذا النحو:


توخَّى حِمام الموت أوسط صبيتي - - - -فلله كيف اختار واسطة العقد
لقد قلّ بين المهد واللحد لُبثه- - - - -فلم ينسَ عهد المهد إذ ضُم في اللحد
ألح عليه النزف حتى أحاله - - - - -الى صفرة الجادي عن حمرة الورد(1)
وظل على الأيدي تساقط نفسه - - - ويذوي كما يذوي القصيب من الرند(2)
فيالكِ من نفس تساقط أنفساً - - - -تساقُطَ درّ من نظام بلا عقد
ألام لما أبدي عليك من الأسى - - - -وإني لأخفي منك أضعاف ما أبدي

وعلى هذا المنوال تتوالى أبيات القصيدة التي تفيض بلوعة الحزن الملتهب وتدل على أنها صادرة عن شاعرية قادرة على تصوير الأحزان وتجسيد المآسي، إلى جانب رسم المشاهد وفق نمط يجعلها ناطقة بالحدث مستوفية لمعالم الصورة، فابن الرومي الشاعر المصور بارع في رسم الوقائع وتلوين الأحداث وتجسيم المعاني، بحيث تبدو كما لو كانت مرسومة بريشة رسام لا بقلم شاعر، فهو يُفيض على الألفاظ من حسه ومهارته وابداعه ما يجعلها شاخصة كما لو كانت قد رُسمت بالفرشاة أو نُحتت بالإزميل.
***
وعباس العقاد في كتابه: "ابن الرومي حياته من شعره" يتحدث عن دقة الشعور عنده وفرط احساسه وقدرته على ابتكار الصور وتضخيمها وذلك يتمثل في: "الشعور الذي يسبق كل تشخيص لابن الرومي أو كل محسوس أو غير محسوس".. ثم يفسر العقاد المقصود بالتشخيص على أنه: "تلك الملكة الخالقة التي تستمد قدرتها من سعة الشعور حيناً أو من دقة الشعور حيناً آخر، فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأراضين والسماوات من الأجسام والمعاني، فاذا هي حية كلها لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة، والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر ويهتز لكل هامسة ولامسة، فيستبعد جدَّ الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير وتوقظه تلك اليقظة وهي هامدة جامدة صفر من العاطفة خلو من الارادة، وهذا الشعور الدقيق هو شعور ابن الرومي بكل ما حوله، وسبب ما عنده من قدرة على الإحياء وقدرة التشخيص".. وفي موضع آخر يؤكد هذه الحقيقة عن هذا الشاعر بما يعطي صورة واضحة عن منهجه وموهبته التي تمده بعطاء كبير في التجسيد والتصوير فيقول: "لو كان ابن الرومي مصوراً لما استغرب منه هذا الولع بالألوان والظلال والأشكال والحركات، لأنه كان يستطيع إذن أن يشرع في عمله قبل أن يلتفت إلى عناصر الصورة المحسوسة، وُيجيلها في روعة ويهيئها للظهور على قرطاسه".
***
والإنسان اذا فقد ابنه الذي هو جزء منه وبعض من تكوينه وهو في ذاته مرتبط به عاطفياً وانسانياً، فانه لا يجد ما يفزع إليه للتنفيس عن مُصابه فيه سوى البكاء أو الرثاء إن كان من القادرين عليه نثراً أو شعراً، وفي بكائه أو رثائه ما يخفف حدة الفاجعة التي قد تكون هدّت جسمه وجرحت قلبه، كما فعل الشاعر أبوتمام في رثائه لابنه وقد كان يشاهده يصارع سكرات الموت أمامه، وهو لا يستطيع أن يخفّف آلامه ولا أن يرد عنه أجله المحتوم، لكنه قد استطاع أن يرسم له صورة واقعية في احتضاره مودعاً له بهذه الأبيات الشعرية العاطفية:


آخر عهدي به صريعاً - - - للموت بالداء مستكينا
اذا شكا غُصة وكرباً - - -لاحظ(3) أو راجع الأنينا
يدير في رجعه(4) لساناً- - -يمنعه الموت أن يُبينا
يَشخص طوراً بناظريه- - -وتارة يُطبق الجفونا
ثم قضى نحبه فأمسى- - -في جدث للثرى دفينا
بعيد دار قريب جار - - -قد فارق الإلف والخدينا
***
ومن شعر الحكمة في الرثاء ما قاله علي بن محمد التهامي هو شاعر معروف، فحين مات ابنه اتجه لرثائه، وعلى الرغم من الحسرة التي كان يعانيها لفقده أملى عليه الموقف المأساوي التفكير في أحوال الدنيا وكيف أنها لا تدوم على حال من الهناء أو الشقاء، فكما جاء اليها الانسان فانه سوف يرحل عنها، فقد طُبعت على كدر ونحن نريدها صافية لا كدر فيها وهذا ضدّ طبيعة الأشياء، وفي ظل هذا التصور كان رثاؤه لابنه بقصيدة تنطوي أكثر أبياتها على الحكمة ومنها ما سار مسار الأمثال مثل هذه الأبيات:


حكم المنيّة في البرية جاري***ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يُرى الانسان فيها مُخبراً***حتى يُرى خبراً من الأخبار
طُبعت على كدر وأنت تريدها***صفواً من الأكدار والأقذار
ومكلّف الأيام ضد طباعها***متطلّب في الماء جذوة نار
فالعيش نوم والمنيّة يقظة***والمرء بينهما خيال ساري
ياكوكباً ما كان أقصر عمره***وكذا تكون كواكب الأسحار


وفي هذه الأبيات الستة نجد الشاعر في خمسة منها يتحدث عن الدنيا وتقلباتها والحياة ومنغصاتها، وينتهي في البيت السادس إلى التفجع على ابنه الذي شبهه بكوكب أضاء في الأفق ثم سرعان ما اختفى، وقد جاء وصفه له بأنه مثل كواكب الأسحار لأنها قصيرة الأعمار تبدو في السماء برهة من الوقت ثم تختفي بعد زمن محدود.
***
ومن أصدق المراثي وأشهرها قصيدة أبي العلاء المعري (غير مجد) التي كانت رثاءً في أحد أخلص أصدقائه من علماء زمانه، ولقد كان مخلصاً في قوله صادقاً في رثائه لأنه لا يريد من ورائها نفعاً ولا يرجو رفعة، فهو زاهد في الدنيا معتزل للمجتمع، ولكن موت صديقه الفقيه فجّر في ذاته هذه المشاعر الانسانية، فكانت قصيدته هذه التي ضمّنها فلسفته ورؤيته للحياة من حوله، وقد استعرض تجربته الطويلة التي أطلقت على لسانه باقة من الحكم، عرفت عنه بحكم معايشته للأحداث التي مرت به مما جعل لهذه القصيدة صدى واسعا لأنها تعبر عن الحقيقة التي يجهلها كثيرون من الناس أو يتجاهلونها، ولأهميتها وما تحمله من عِبَر فقد ذاعت أبياتها في عصر المعري وما بعده من عصور ولا تزال تتردد أصداؤها في كل مناسبة حتى عصرنا هذا، وهو يستهلها بقوله:
غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي ***نوح باك ولا ترنم شادي
ويصور الواقع الذي يعيشه بنو آدم ولكننا ننساه في غمرة انشغالنا بدنيانا:
وشبيه صوت النعي اذا قيس بصوت البشير في كل نادي
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض الا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قَدُم العهد هوان الآباء والأجداد
سر إن استطعت في الهواء رويداً لااختيالا على رفات العباد
رُبّ لحد قد صار لحداً مراراً
ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين
في طويل الأزمان والآباد

تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد
إنّ حزناً في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد
ومضامين هذه القصيدة التي قدمها المعري لأمته بقصد الاعتبار واضحة الدلالة في مغزاها وافية الفكرة في مبناها، ليست لحاجة إلى مزيد شرح وفهم وإن كانت بحاجة إلى ادراك واعتبار.
***

ولعل من أجمل ما قيل في عصرنا الحديث: رثاء الشاعر أحمد شوقي لأبيه، وهو رثاء صادر عن فجيعة موجعة على فراق الأب الحاني الذي كانت عواطفه تغمر ابنه والانسجام يسود بينهما، حتى صارا كأنهما روح واحدة في جسدين لمتانة صلة الأبوة بالبنوة، وقد أصبحا كما عبّر شوقي عن هذا التمازج العاطفي الرائع الذي استطاع الابن الشاعر أن يجسده حين طوى الموت الأب المحب وهو يمثل جانب الأبوة الرائعة وبقي الابن الملتاع وهو يمثل جانب البنوة الحزين، فكأنهما بنيان واحد متماسك انقسم الى شطرين شطر رحل وشطر بقي، يعاني شعور الفراغ بفقد الأب العزيز الذي لا يملأ مكانه كل مباهج الدنيا حتى لكأنه هو الذي مات أو هذا ما تخيله الابن الشاعر عن رحيل والده الفقيد:

أنا مَنء مات ومَنء مات أنا ***لقي الموت كلانا مرتين
نحن كنا مهجة في بدن******ثم صرنا مهجة في بدنين
ثم عُدنا مهجة في بدن*****ثم نُلقى جثة في كفنين
ما أبي إلاّ أخ فارقته*****وُدّه الصدق وودّ الناس مَين(5)

عبارات محدودة عفوية في اطارها، مؤثرة في معانيها تُبرز رابطة الأب بالابن وارتباط الابن بالأب في تلاحم أسري تجعلنا نشعر من خلال ذلك الرثاء بأنه نابع من القلب متعمق في الوجدان، فيه نبض صادق بالمودة وتمازج في العواطف.. والرثاء تعبير عن شفافية انسانية وتصوير لمشاعر ذاتية، وأداء معبر عن شحنة الألم وصورة ناطقة عن اتساع مساحة الفراق وتباعد الأحباب بشكل حتمي لا يُرجى معه عودة غائب ولا لقاء راحل، ولا يبقى بعد ذلك سوى اختزان ذكريات حزينة تكاد لا تمحوها الأعوام.
الهوامش:
(1) الجادي: الزعفران.
(2) الرند: شجر طيب الرائحة.
(3) لاحظ هنا بمعنى: نظر إلى أهله.
(4) في رجعه، الرجع: رد الكلام.
(5) المين: الكذب


قال أبي ذؤيب الهذلي في رثاء صديق

هـل الـدهـر إِلا ليلـةٌ ونـهارُهَـا ***وإِلا طلـوعُ الشمـس ثـم غِيارُهَـا

أبـى الله إِلا أَمَّ عمـرو وأصبحـت***تَحَـرَّقُ نـارِي بالشَّـكاة ونارُهَـا

"
"
منقوول