من كتاب البداية والنهاية الجزء الأول لابن كثير رحمه الله :


قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76-83‏]‏

قال الأعمش، عن المنهال بن عمرو بن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان قارون ابن عم موسى، وكذا قال‏:‏ إبراهيم النخعي، وعبد الله بن الحرث بن نوفل، وسماك بن حرب، وقتادة، ومالك بن دينار، وابن جريج، وزاد فقال‏:‏ هو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى بن عمران بن قاهث‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ وهذا قول أكثر أهل العلم، أنه كان ابن عم موسى، ورد قول ابن إسحاق إنه كان عم موسى‏.‏

قال قتادة‏:‏ وكان يسمى المنور، لحسن صوته بالتوراة‏.‏ ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي لكثرة ماله‏.‏

وقال شهر بن حوشب‏:‏ زاد في ثيابه شبراً طولاً ترفعاً على قومه، وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه، حتى أن مفاتيحه كان يثقل حملها على الفئام من الرجال الشداد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 361‏)‏

وقد قيل‏:‏ إنها كانت من الجلود، وإنها كانت تحمل على ستين بغلا، فالله أعلم‏.‏ وقد وعظه النصحاء من قومه قائلين‏:‏ لا تفرح أي‏:‏ لا تبطر بما أعطيت وتفخر على غيرك إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ‏}‏ يقولون‏:‏ لتكن همتك مصروفة لتحصيل ثواب الله في الدار الآخرة، فإنه خير وأبقى، ومع هذا ‏{‏وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ وتناول منها بمالك ما أحل الله لك، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال‏.‏

‏{‏وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله خالقهم وبارئهم إليك‏.‏

‏{‏وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ‏}‏ أي‏:‏ ولا تسيء إليهم، ولا تفسد فيهم، فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم، فيعاقبك ويسلبك ما وهبك‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ فما كان جواب قومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي‏}‏ يعني‏:‏ أنا لا أحتاج إلى استعمال ما ذكرتم، ولا إلى ما إليه أشرتم، فإن الله إنما أعطاني هذا، لعلمه أني أستحقه، وأني أهل له، ولولا أني حبيب إليه وحظي عنده لما أعطاني ما أعطاني‏.‏

قال الله تعالى رداً عليه ما ذهب إليه‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم، من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا، فلو كان ما قال صحيحاً لم نعاقب أحداً ممن كان أكثر مالاً منه، ولم يكن ماله دليلاً على محبتنا له واعتنائنا به‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55-56‏]‏ وهذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي‏}‏‏.‏

وأما من زعم أن المراد من ذلك أنه كان يعرف صنعة الكيمياء، أو أنه كان يحفظ الاسم الأعظم، فاستعمله في جمع الأموال، فليس بصحيح، لأن الكيمياء تخييل وصبغة، لا تحيل الحقائق، ولا تشابه صنعة الخالق، والاسم الأعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به، وقارون كان كافراً في الباطن، منافقاً في الظاهر، ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على هذا التقدير، ولا يبقى بين الكلامين تلازم، وقد وضحنا هذا في كتابنا ‏(‏التفسير‏)‏، ولله الحمد‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ‏}‏ ذكر كثير من المفسرين‏:‏ أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس، ومراكب، وخدم، وحشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا، تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه بما عليه وله، فلما سمع مقالتهم العلماء ذوو الفهم الصحيح، الزهاد الألباء قالوا لهم‏:‏ ‏{‏وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً‏}‏ أي‏:‏ ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى، وأجل وأعلى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 362‏)‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ وما يلقى هذه النصيحة وهذه المقالة، وهذه الهمة السامية، إلى الدار الآخرة العلية عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية، إلا من هدى الله قلبه، وثبت فؤاده، وأيد لبه، وحقق مراده، وما أحسن ما قال بعض السلف‏:‏ إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ‏}‏ لما ذكر تعالى خروجه في زينته واختياله فيها، وفخره على قومه بها، قال‏:‏ ‏{‏فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ‏}‏‏.‏

كما روى البخاري، من حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رواه البخاري من حديث جرير بن زيد، عن سالم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه‏.‏

وقد ذكر ابن عباس والسدي‏:‏ أن قارون أعطى امرأة بغياً مالاً على أن تقول لموسى عليه السلام وهو في ملأ من الناس إنك فعلت بي كذا وكذا‏.‏