د. عدنان بن عبد الله الشيحة

عندما تغيب الحكمة نفقد كل شيء! الاتجاه والقوة والتحكم والسيطرة، وفراغ يفضي إلى النزاعات والصراعات. وإذا كانت الحكمة تعني اختيار الوسيلة المناسبة للهدف المناسب، فهي تقتضي تناول القضايا والأحداث والتعامل معها بموضوعية وحيادية وعدل والبحث الجاد عما ينفع، والسعي الحثيث نحو الأفضل. الخروج من دائرة الحكمة يقود الأفراد والمجتمع إلى العشوائية والتخبط، وإن بدا الأمر في ظاهره جذابا وأنهم يحسنون صنعا، فالعلم والفكر إذا لم يكونا مبنيين على الحكمة يقودان نحو الهلاك والدمار. والشاهد على ذلك المخترعات والمبتكرات التي تدمر وتخرب وتقتل وتهلك الحرث والنسل وتقضي على الأخضر واليابس. فها هي أسلحة الدمار الشامل والملوثات تملأ الرحب، والاعتداء الجائر على البيئة يخنق البشرية ويهدد كوكب الأرض، كل ذلك نتيجة حتمية لغياب الحكمة. وعندما يتلبس بعض النخب الفكرية وهم المعرفة الشاملة وينصّب نفسه حاكما على سلوكيات الآخرين ويفرض عليهم فكره وتوجهاته بشتى الوسائل الشرعية وغير الشرعية، فثمة المصيبة الكبرى التي تعرقل نمو واستقرار وتماسك المجتمع. هذا التكبر الفكري يجعل بعض النخب المثقفة يعتقد أن الوطن يبدأ منه وإليه ينتهي، وأنه أعلم وأعرف الناس بما ينفع الناس حتى ولو على حساب حريتهم وسلبهم حق التعبير والاعتقاد! وعندما يزدري المثقف الآخرين فهو يسقط في هاوية الجهل، لأن الثقافة التنويرية تعني سعة الأفق واحتواء الآخرين ومنحهم حق إبداء الرأي، خاصة في حال الخصام الفكري. ترفع المثقف واستجلابه أفكارا مستوردة من خارج الحدود وفرضها على الآخرين يصل إلى حد تقويض الثوابت الوطنية، أمر في غاية الخطورة ويصيب الوحدة الوطنية في مقتل. المصيبة عندما يتلوَّن المثقف ويتخلى عن مبادئه وما يدعو إليه، وعلى رأسها حرية التعبير والموضوعية، فيوظف قدراته الفكرية في تسفيه الآخرين والتقليل من شأنهم والتعدي عليهم من منطلق عنصري أو مناطقي على مبدأ خالف تعرف. إن الإعلان عن النفس والبحث عن المجد الشخصي، والسعي نحو دائرة الأضواء والشهرة جعل بعض المثقفين تسيره الأحداث ويتحول إلى إمعة، وبذلك يفقدون أحد أهم مقومات هوية المثقف وهو الاستقلالية والموضوعية.
المشكلة أن الاختلاف بين المثقفين، من أي فئة كانوا، صراع أيديولوجي بحت هدفه الانتصار للفكر والتحزب الفئوي، وليس البحث عن حلول للمشكلات الاجتماعية، ليتحول الحوار الثقافي إلى حرب ضروس ونقاشات عديمة الفائدة لا طائل من ورائها إلا تعمق الشقاق والخلاف في المجتمع. الاختلاف الفكري أمر طبيعي، بل ظاهرة صحية، فالتنافس يؤدي إلى التطوير والارتقاء بالمجتمع، لكن بشرط أن يكون داخل دائرة الحكمة، والمشترك ويؤدي إلى المنفعة الاجتماعية. ما يحدث على الساحة من نقاشات بين فئات المثقفين أمر يندى له الجبين تتخذ فيه الأحداث ذريعة للنيل من الفريق الآخر بشكل سمج يخرج عن دائرة الخلق الرفيع. هذا التربص للأخطاء وتصيد الهفوات وشخصنة المواقف يفوِّت الفرصة لتناول القضايا الحرجة والحساسة والغوص في أعماق المشكلات، والبحث عن حلول جذرية ومبادرات تسهم في تطور المجتمع اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. هل يصح أن توظف الأحداث للنيل من الآخرين؟ هل يكون من مصلحة المجتمع على سبيل المثال النقاش حول قيادة المرأة للسيارة أم حقوقها وكيفية تحقيقها؟ هل من المقبول أن تهمش قضايا البطالة والفقر والتلوث البيئي والازدحام المروري وتقادم بعض التنظيمات الإدارية والمالية الحكومية، لأنها موضوعية وحيادية ولا تدخل ضمن الصراع الفكري المؤدلج للمثقفين؟ هذه التساؤلات وغيرها كثير يجب طرحها ومناقشتها لإعادة المثقفين إلى دائرة الحكمة وتوجيه فكرهم وطاقاتهم فيما ينفع الناس والوطن. لا شك أن المثقفين هم عناصر التغيير والتطوير وكيفما يكونون يكون الوطن! والواقع يشير إلى أن هناك مساحة كبيرة للتطوير، وأن الكثير من المثقفين سخَّر فكره وجهده في تخطئة الآخرين وليس المساهمة معهم في إيجاد أوضاع أفضل مربحة للجميع.
إن التحديات التي تواجه المجتمع تستدعي منا جميعا مثقفين وعموم إعادة النظر في طريقة تفكيرنا بالتركيز على إيجاد حلول واقعية والبحث عن المشترك والتخلي عن الأنانية والتحزب، فقدرنا وإن اختلفنا أن نعيش مع بعضنا في إطار الوطن الواحد متفقين على الثوابت الوطنية. لم يعد ممكنا أن تكون نقاشاتنا هامشية في ترف فكري لا تمت بصلة لواقعنا أو أن تتحول إلى صراع للديكة وحوار للطرشان. الحكمة تقتضي أن نفكر وأن نعمل سويا بما ينفعنا، وهذا يعني النظر للآخرين على اختلاف آرائهم وأفكارهم كمساهمين وشركاء في التنمية لا يمكن الاستغناء عنهم . هذه الرؤية المشتركة أساسها حب الوطن ووحدة المصير والمنفعة الجماعية وهي تحتم نبذ الخلاف واستثمار الاختلاف في طرح مبادرات جديدة إبداعية ترتقي بالوطن وتجعله أكثر قوة ومنعة. من مصلحتنا أن يكون الوطن آمنا مستقرا مزدهرا، وهذا لا يتأتى إلا بتكاتف الجميع فكرا وميولا وعملا في إطار من الموضوعية والعدالة وحرية التعبير رافعين شعار "نختلف لنأتلف". هكذا فقط نوقف الانفلات الفكري والعصبية الثقافية والقطبية ونجرم السخرية بالآخرين والتطاول على الأفراد أو فئات من المجتمع لأي سبب كان، لأننا في سعودية الشرع والشرعية عائلة واحدة. فهل أولئك المثقفون الذين يترفع صوتهم فوق صوت الوطن منتهون؟ الحكمة تقتضي الأخذ بأيديهم وتوجيههم وإن اقتضى الأمر الأخذ على أيديهم، فكل شبر من هذا البلد الطاهر ومواطنيه طاهر وله قدسيته وحرمته ولا يمكن لأي كائن من كان أن يدنسه وصفا أو عملا.

جريدة الإقتصادية