بسم الله الرحمن الرحيم

طريقة تجنب المعاصي , التعهد بترك المعصيه , النجاة من المعاصي


النجاة من شؤم المعصية
د.محمد بن عبدالله الدويش


لمن فاته الجزأين السابقين:

النجاة من شؤم المعصية[1]

النجاة من شؤم المعصية[2]


هل تعاهد الله على ترك المعصية؟

حين يواقع بعضٌ من الشباب المعصية، وتكويه نارها، يتحرك وازع الإيمان في قلبه، ويحترق ندماً وتألماً، ويشعر أن نفسه الضعيفة أوقعته في المعصية، حينها يعاهد الله سبحانه وتعالى أن لا يقارف المعصية، أو ينذر لله أن يصوم كذا وكذا أو يصلي كذا وكذا.

هذا المسلك لاشك أن الباعث عليه هو التألم من مواقعة المعصية، والرغبة في كبح جماح النفس، ووضع حد لتجاوزاتها ؛ ولكن: هل سلامة النية وحدها كافية في الحكم على عمل أنه صائب وموافق للشرع؟!.

وحين نضع الموضوع على محك النقاش نستطيع أن نسجل الملحوظات الآتية:

1 - الغالب أن الدافع لهذا الشاب لمثل هذا المسلك هو شعوره بالفشل في مقاومة نفسه، ومن ثم يرى أنها بحاجة للّجوء لهذه الأساليب للضغط عليها. والنفس لاشك قد تضعف، ويشعر صاحبها أنها قد تخونه، لكن مثل هذا المسلك هروب عن الأسلوب الأنجح في كبح جماحها.

ويشير القرآن الكريم إلى هذا المعنى، موجهاً إلى الالتفات للسبب الحقيقي، والأسلوب الأولى. ألا وهو الحزم مع النفس، وقوة العزيمة: (وأقسموا وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ). [النور: 53]. فالقضية ليست بحاجة للقسم، إنما طاعة وعزيمة.


2 - حين يعاهد الله على عدم مواقعة المعصية فقد تضعف نفسه ويواقعها. وقد يخشى أن ينطبق عليه قول الله تعالى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ). [التوبة: 75- 77].


3- لقد نهى صلى الله عليه وسلم عن النذر وأخبر أنه: "لا يردّ شيئاً، إنما يستخرج به من البخيل". [رواه البخاري6693، ومسلم1639]. فحين ينذر ثم يفشل ويقع في المعصية يكون قد ألزم نفسه ما لم يلزمه الشرع به.

وكثيراً ما نجد المرء يسأل وقد نذر أو عاهد الله أن يفعل فعلاً فلم يفعله، ويبحث عن المخرج. وكان الأولى به اختصار الطريق من البداية.


4- لو فكر هذا الشاب في نفسه ملياً لرأى أنه لا فرق بين الذي عاهد الله أو الذي لم يفعل. فالذي أوقعه في المعصية إنما هو استيلاء الشهوة وغلبة داعيها على داعي الإيمان. فهذه المعاهدة لن تصنع شيئاً ولن تجدي.



فعل الحسنة بعد السيئة


حين تقع - أخي الكريم - في معصية فبادرها بحسنة وحسنات علها أن تكفر عن هذه السيئة.
عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ). [هود: 114]. فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا؟!. قال: لجميع أمتي كلهم". [رواه البخاري 526، ومسلم 2763].

وفي رواية لمسلم: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها. فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت. فقال له عمر رضي الله عنه: لقد سترك الله، لو سترت نفسك. قال: فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً. فقام الرجل فانطلق، فاتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعاه وتلا عليه هذه الآية: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ). [هود: 114]. فقال رجل من القوم: يا نبي الله، هذا له خاصة؟!. قال: بل للناس كافة".

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن". [رواه أحمد 1/ 387].
وقال صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن". [رواه أحمد 5/ 153 والترمذي1987 وقال: هذا حديث حسن صحيح].

ويضرب صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً فيقول: "إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقه قد خنقته، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة، ثم عمل أخرى فانفكت الأخرى حتى يخرج إلى الأرض". [رواه الطبراني من حديث عقبة بن عامر].

وحين أراد معاذ سفراً قال: "يا رسول الله، أوصني. قال له: اعبد الله ولا تشرك به شيئاً". قال: يا رسول الله، زدني. قال: إذا أسأت فأحسن. قال: يا رسول الله، زدني. قال: استقم، ولتحسن خلقك". [رواه الحاكم 4/ 272. وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه].

وهذا الأمر في الحسنات جملة فهي مكفرة للسيئات، وقد ورد الحث على الوضوء والصلاة بعد الذنب.
فعن علي رضي الله عنه قال: "كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته، فإذا حلف لي صدقته. وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني، وصدق أبو بكر، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين، فيستغفر الله عز وجل، إلا غفر له". [رواه أحمد 1/ 2].

وقد جاءت السنة ببيان طائفة من الأعمال التي تكفر السيئات والذنوب وهى كثيرة يضيق المقام عن حصرها فإلى طائفة يسيرة منها:

• أولاً: الوضوء:

لقد ختم الله آية الوضوء بقوله سبحانه: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). [المائدة: 6].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب". [رواه مسلم 244].

والوضوء عبارة متكررة يفعلها الإنسان في اليوم الواحد مراراً، فلو تأمل المرء هذا المعنى وهو يتطهر لرأى نفسه تستعيد شريط الذكريات بعيداً عن الشهوة التي غلبته، واللذة التي أعمت بصيرته حتى واقع الخطيئة. فيتذكرها تذكر نادم تائب؛ فيولد تذكر هذا المشهد لديه نفوراً من المعصية وفراراً منها. لكنا وللأسف لا نتأمل هذه المعاني.


• ثانياً الصلوات الخمس:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أريتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً، ما تقولوا ذلك يبقي من درنه؟!. قالوا: لا يبقي من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله به الخطايا". [رواه البخاري 528، ومسلم 667].


تحقيق التوحيد

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى فأعطي ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات". [رواه مسلم 244].

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها، أو أغفر، ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة". [رواه مسلم 2677 وأحمد 5/ 172].

وتنفع كلمة التوحيد لا إله إلا الله في يوم يبحث فيه عما يخلصه كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟!. أظلمك كتبتي الحافظون؟!. فيقول: لا يا رب.
فيقول أفلك عذر؟!. فيقول: لا يا رب.
فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم. فتُخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فيقول: أحضر وزنك. فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟!.
فقال: إنك لا تظلم.
قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقُلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله تعالى شيء". [رواه الترمذي 2639 وأحمد 2/ 213 وابن ماجه 4300].


فتحقيق التوحيد واجتناب ما يخدشه مما يؤهل العبد بإذن الله لتحقيق هذه المنزلة.
قال ابن القيم رحمه الله: "ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك مالا يعفى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي". [فتح المجيد، ص 44].

وقد يتساءل بعضنا:
وما شأن التوحيد؟!.
ولم يكون البعد عن الشرك بهذه المنزلة؟!.
فيجيب على ذلك التساؤل العلامة ابن القيم رحمه الله فيقول: "فاعلم أن هذا النفي العام للشرك - أن لا يشرك بالله شيئاً البتة - لا يصدر من مُصر على معصية أبداً، ولا يمكن مدمن الكبيرة والمُصر على الصغيرة أن يصفو له التوحيد، حتى لا يشرك بالله شيئاً، هذا من أعظم المحال ولا يلتفت إلى جدلي لاحظَّ له من أعمال القلوب، بل قلبه كالحجر أو أقسى يقول: وما المانع؟!. وما وجه الإحالة؟!. ولو فرض ذلك واقعاً لم يلزم منه محال لذاته. فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله. واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله وتوكله على غير الله. ما يصير به منغمساً في بحار الشرك، والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل. فإن ذُلَّ المعصية لابد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفاً من غير الله وذلك شرك، ويورثه محبة لغير الله، واستعانة بغيره من الأسباب التي توصله إلى غرضه. فيكون عمله لا بالله ولا لله، وهذا حقيقة الشرك. نعم قد يكون معه توحيد أبي جهل وعباد الأصنام. وهو توحيد الربوبية وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله. ولو أنجى هذا التوحيد وحده لأنجى عباد الأصنام. والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارق بين المشركين والموحدين. والمقصود أن من لم يشرك بالله شيئاً يستحيل أن يلقى الله بقراب الأرض خطايا مصراً عليها، غير تائب منها، مع كمال توحيده، الذي هو غاية الحب والخضوع والذل والخوف والرجاء للرب تعالى". [مدارج السالكين 1/ 354- 355].

وتحقيق التوحيد يطبع سلوك المسلم بنفس ترفض المعصية وتأباها، ويشعر أن محبته لمولاه وذله وفقره إليه عز وجل تأبى عليه أن يقارف حرماته أو يجاوز حدوده، وحين يلم بشيء من ذلك فما يلبث أن يستفيق ويستيقظ.
وقد يتصور بعض الناس ويشتط في الفهم فيرى أن هذه النصوص شهادة براءة له وتزكية، وأنه قد ضمن المغفرة والعفو مادامت قدماه لم تقله طائفاً على قبر، وجبهته لم تخر بالسجود لغير الله. وهو فهم مجانب للصواب لا يحمل رصيداً من الحقيقة.

وإلا فما معنى أن يعذب الموحدون في النار بقدر أعمالهم وهم يقولون لا إله إلا الله، ولا يشركون بالله؟!. إلا أن هذا يعني أن مفهوم التوحيد وتحقيقه ونفي الشرك أبعد وأعمق من مجرد تلك النظرة القاصرة التي يراها أولئك.
ومفهوم التوحيد والشرك ليس بأحسن حالاً من غيره من المفاهيم والمصطلحات الشرعية التي علاها الغبش والرّان وتسلطت عليها الأفهام البشرية والأهواء.

قال ابن القيم رحمه الله: "ولسنا نقول إنه لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد، بل كثير منهم يدخل بذنوبه ويعذب على مقدار جرمه ثم يخرج منها، ولا تنافي بين الأمرين لمن أحاط علماً بما قدمناه". [مدارج السالكين 1/ 358].


وحين تدرك ذلك أخي الكريم تعلن المقاطعة إلى غير رجعة مع تلك المفاهيم الجامدة التي تصور لأصحابها أنهم برآء من الشرك ومحققون للتوحيد بمجرد اجتناب مظاهر محددة أو حفظ عبارات معينة. بل بمجرد أن يولد في بلد التوحيد ويتصل إسناد نسبه دون انقطاع بأهل التوحيد؟!.

ومع إدراكك حاجتك الماسة لتحقيق التوحيد في القلب ومراجعته تدرك أن التوحيد مراتب ومراحل ودرجات فتسعى للرقي فيها والمسابقة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
"اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه فلها نور. وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفاً لا يحصيه إلا الله تعالى. فمن الناس: من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس. ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري. ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم. وآخر: كالسراج المضيء. وآخر كالسراج الضعيف ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفة وحالاً". [مدارج السالكين 1/ 358].


وحيث كان أهل التوحيد يتفاوتون هذا التفاوت، ويختلفون هذا الاختلاف، فـنتاج هـذا الـتوحيد وثمرته في الدنيا والآخرة تتفاوت كذلك.
قال رحمه الله موضحاً أثر ذلك: "وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد: أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته. حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنباً إلا أحرقه. وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً. فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غِرَّة وغفلة لابد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه، أو حصل أضعافه بكسبه. فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره" . [مدارج السالكين 1/ 358].


إذاً فلنعن أخي الكريم بتحقيق التوحيد في قلوبنا، وملئها بمحبة الله وإجلاله وتعظيمه، والتخلي عن التعلق بما سواه، والتوجه إلى غيره عز وجل.



لا تفارق الأخيار

أحياناً يحدث الشاب نفسه وهو يراها مقيدة بأغلال المعاصي مأسورة بأسرها: كيف أصحب الأخيار وأعاشرهم وأنا ملوث، وأنا عاصٍ، أشعر أنني منافق حين أصاحبهم، إلى غير ذلك من التساؤلات.

وهذه الهواجس إفراز غير طبيعي لضغط الذنب والخطيئة عليه. ولو تحول ذلك إلى دعوة ملحة للتوبة والإقلاع والندم كان هذا خير وأولى.
ولــو تساءل بلغة أخرى ومنطق مخالف فقال:
• أولاً: إن صحبتي للأخيار بحد ذاتها عمل صالح من أفضل الأعمال والحسنة تكفر السيئة. وقد عد صلى الله عليه وسلم من يحب أخاه في الله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

• ثانياً: محبة الصالحين سبب للحوق المرء بهم ولو لم يبلغ منزلتهم في العمل فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرء مع من أحب". [رواه البخاري 6170، ومسلم 2641].

وسأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟!. فقال صلى الله عليه وسلم ماذا أعددت لها؟!. قال: ماذا ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكن أحب الله ورسوله ، قال: "أنت مع من أحببت". [رواه البخاري 6171، ومسلم 6239].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟!. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب". [رواه البخاري 6169، ومسلم 2640].

فما دام هذا الأمر قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف أزهد فيه؟!.
فلعل الله عز وجل أن يلحقني منازلهم، ويحشرني معهم يوم القيامة، وليكن شعاري.

أحب الصالحين ولست منهم ** لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارتهم معاصي ** وإن كنا سوياً في البضاعة

فلئن قالها الشافعي رحمه الله تواضعاً ومقتاً لنفسه فأنا أقولها إخباراً عن الحقيقة.

• ثالثاً: الناس أصناف ثلاثة:

=الاول: من يأخذ نفسه بزمام التقوى، ويمنعها عن المعصية، فهذا خير وبر ولعل الله أن يبلغني منزلته.
= والصنف الثاني: من يأتي معصية الله وهو على وجل وندم، ويشعر أنه على خطر عظيم ويتمنى ذلك اليوم الذي يفارق فيه المعصية.
= والصنف الثالث: من يبحث عن المعصية، ويفرح بها، ويندم على فواتها.

فأنا وإن كنت لست من الصنف الأول وأتمنى من الله أن يلحقني به فلأن أكون من الصنف الثاني خير لي وأزكى من أكون من الثالث.

• رابعاً: أن الندم والحسرة، والتألم على المعصية إنما جنيته من الصحبة الصالحة، وهذه أول بركاتهم وباكورة ثمراتهم، وحين أفارقهم فسوف يخبت هذا الصوت ويقل أثر هذه الملامة للنفس. وحينها أنتقل لا سمح الله إلى جحيم المعصية ودركاتها.

إن أولئك الذين لا يصاحبون الأخيار قد لا يشعرون مرة واحدة بالندم ومرارة المعصية، أما أولئك الذين يصاحبونهم فهم يشعرون بذلك حين يرون إخوتهم ولسان حال أحدهم يقول: كل هؤلاء خير وأطهر مني.

إذاً فصحبتي للأخيار سبب في تألمي من المعصية وهذا بحد ذاته خطوة بإذن الله في طريق التوبة. وهب أني لم أتب ، فالذي يفعل المعصية وهو نادم خير ممن يفعلها وهو يضحك.

• خامساً: هب أنى فارقت الأخيار، فهل سيزول ما أشكو منه وأبرأ من داء المعصية؟!. أم أنى سأفقد الدواء فيستفحل الداء. فالمرء لابد له من صحبة؛ فإن تركت هؤلاء فالبديل هم أولئك الذي أراهم على معاص أكبر مما أفعل فيولد ذلك عندي الاستهانة بما أنا واقع فيه، بل والتطلع لما هم عليه، ثم لن أسمع منهم موعظة أو أجد منهم تذكيراً.

إنه لو طرح على نفسه تلك التساؤلات السابقة لخرج بنتيجة مؤداها:

أن وقوعه في المعصية، ومعاناته من شؤمها مدعاة إلى التزود من صحبة الأخيار، والسعي لذلك، لا أن تكون عائقاً ومثبطاً.

إذاً أخي الكريم: خير لك أن تعضّ على هذه الصحبة بالنواجذ بل أنت أحوج ما تكون إليهم، ولأن تبقى محباً مصاحباً لهم وأنت على معصيتك خير لك من أن تفارقهم وأنت عليها.

ويجعل ذو النون رحمه الله ملازمة الأخيار من أمارات التوبة. فيقول: "ثلاثة من أعلام التوبة: إدمان البكاء على ما سلف من الذنوب، والخوف المتعلق من الوقوع فيها، وهجران إخوان السوء وملازمة أهل الخير".
إن صحبة الأخيار أفادت من هو دونك ففتية أهل الكهف حين خرجوا صحبهم كلب جرى ذكره في القرآن "فإنه إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا، فما ظنك بالمؤمنين الموحدين، المخالطين، المحبين للأولياء والصالحين، بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال، المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وآله خير آل". [تفسير القرطبي 5/ 3988].



لا تعير غيرك بالذنب

المسلم يحب الله عز وجل وكل عمل يحبه سبحانه، ويمقت معصية الله ومن يقارفها، وهو يملك حساً مرهفاً ونفساً جياشة لا تملك الحياد مع من يجترئ على حرمات الله عز وجل، فالحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان ومن فقدها فليراجع نفسه، ويتفقد إيمانه.

لكنه قد يشتط في ذلك فبدلاً من بغض المعصية وصاحبها يعيِّره ويتعالى عليه. وقد يحق عليه وعيد النبي صلى الله عليه وسلم: "من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله". [رواه الترمذي 2505].

وفي حديث يرويه جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: "من ذا الذي يتألّى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟!. فإني قد غفرت له، وأحبطت عملك، أو كما قال". [رواه مسلم 2621].

وكان في بني إسرائيل - كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم رجلان متواخيان "فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الأخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوماً على ذنب فقال له: أقصر فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟!. فقال: والله لا يغفر الله لك – أو: لا يدخلك الله الجنة - فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟!. أو كنت على ما في يدي قادراً؟!. وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار.
قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته". [رواه أحمد 2/ 323، 363، وأبو داود 4901].


والكلمة التي أوبقت دنيا العبد وأدخل النار لأجلها ليست هي قوله أقصر وإنكاره عليه، إنما هي تأليه على الله وقوله: إن الله لن يغفر لك.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا رأيتم أخاكم قارف ذنباً فلا تكونوا أعواناً للشيطان عليه، تقولوا: اللهم اخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية، فإنا أصحاب محمد كنا لا نقول في أحد شيئاً حتى نعلم على ما يموت، فإن ختم له بخير علمنا أنه قد أصاب خيراً، وإن ختم له بشرٍّ خفنا عليه عمله. [رواه عبد الرزاق في المصنف 20266].

ومر أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل قد أصاب ذنباً فكانوا يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟!. قالوا بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا أفلا تبغضه؟!. قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي. قال: وقال أبو الدرداء: ادع الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب في يوم ضرائك. [رواه عبد الرزاق في المصنف 20267، وعنه أبو نعيم 1/ 225].


إذاً فما يقوم به بعض من الشباب من انتقاد فلان أنه يقع في هذه المعصية، ويفعل هذا الأمر أو ذاك، ليس بالضرورة غيرة محمودة بل قد يكون من باب التعيير. والأولى بالمسلم أن ينشغل بعيب نفسه ويخشى ذنوبه، ويشعر أن واجبه تجاه أخطاء غيره يقف عند حد المناصحة والستر والدعاء لهم وسؤال الله العافية.

إن هذا المسلك برهان على إفراط صاحبه في ثقته بنفسه، وتزكيته لها والغرور بوابة من بوابات الهلاك، وأمارة من أمارات إحساس العبد باستغنائه عن معونة مولاه وهو سبب لأن يوكل المرء لنفسه.
وأين هذا مع هدي أعرف الخلق بالله الذين كان يقول أحدهم: (وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ). [هود: 47].

والذي يقول: (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ). [يوسف 33].
والثالث حين يقول لمولاه، بعد أن حطم الأصنام واحتمل في ذلك ما احتمل: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ). [إبراهيم: 35].

أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان من دعائه "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت". [رواه أحمد5/ 42، وأبو داود 5090].

وتعييرك لأخيك "فيه صولة الطاعة وتزكية النفس وشكرها والمناداة عليها بالبراءة من الذنب. وأن أخاك باء به ولعل كسرته بذنبه وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله، ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب أنفع له وخير من صولة طاعتك، وتكثرك بها والاعتداد بها والمنة على الله وخلقه بها. فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله! وما أقرب هذا المدل من مقت الله. فذنب تذل به لديه، أحب إليه من طاعة تدل بها عليه. وإنك أن تبيت نائماً وتصبح نادماً، خير من أن تبيت قائماً، وتصبح معجباً". [مدارج السالكين 1/ 197].



بين المعصية والمشكلة

قد يقع الشاب في معصية من المعاصي، ويجاهد نفسه في التخلص منها، والبحث عن أسبابها، وبعد معاناة يشعر أنه لامناص من ذلك، وأنه واقعٌ في مشكلة بحاجة إلى حل، فيطرح سؤاله، ويبث شكواه لمن يلقاه سائلاً إياه عن حل هذه المشكلة، ودواء هذا الداء.

حمل البريد ذات يوم رسالة من شاب يشكو من وقوعه في معصية من المعاصي فسطرت له رسالة مطولة فيها ما أراه من حل شرعي لها، فأرسل لي شاكراً ومقدراً، وبعد أشهر حمل البريد لي رسالة أخرى بنفس الخط والمشكلة، لكن باسم آخر فعرفت أنه صاحبي الأول وقلت: له الحل يكمن في شيء واحد هو الإرادة الجادة والعزيمة الصادقة على ترك المعصية.

نعم لقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا. إن المؤمن خلق مفتناً، تواباً، نسياً إذا ذُكِّر ذَكَرْ". [رواه الطبراني في الكبير والأوسط كما في المجمع 10/ 201. وقال: "وأحد أسانيد الكبير رجاله ثقات ". وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 2276].


• مع أن كل معصية لها أسباب ودوافع، ولها موانع وعلاج، إلا أن المحك الحقيقي هو العزيمة والصبر، فلو أن رجلاً فقد مفتاح سيارته في أرض مقفرة لكان الخيار الوحيد له أن يبحث عنه، وهو عمل شاق وصعب، وحين يسأل من يدله على حل مشكلته فلن يقول له أكثر من: (ابحث عنه في هذه الأرض التي أضعته فيها). وقد يقول: فعلتُ، ولم أنجح! فيُقالُ له: لا خيار لك غير ذلك.

• ثانياً:
المسلم يعلم علم اليقين أن الله تعالى لم يحرم عليه إلا ما يطيق تركه، ولم يوجب عليه إلا ما يطيق فعله. فما دام الأمر محرماً ففي مقدورك أن تتركه، وما دام واجباً ففي مقدورك فعله، إلا حين يصل المرء إلى حالة اضطرار فعلاً، فحينها يسقط عنه التكليف.

• ثالثاً:
فرق بين الصعب والمستحيل، وبين ما يشق عليك تركه، وما يصعب. والتكاليف الشرعية لابد فيها من نوع مشقة على العبد، لكنها مشقة يطيقها. ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره،". [رواه البخاري 6487، ومسلم 2823].
بل وكيف يثاب المرء على اجتناب المعصية إلا حين تكون نفسه تدعوه لها، والطاعة إلا حين تحتاج منه إلى عمل وبذل.

• رابعاً:
إن شعور الشاب أنه واقع في معصية، يختلف عن شعوره أنه واقع في مشكلة. فالأول يشعر بالتقصير، وضعف الإيمان، وحاجته لعلاج ذلك الداء الحقيقي. أما الثاني فينشغل عن السبب الحقيقي، والعلاج الشرعي، ليبحث عن حلٍ لما يسميه مشكلة، ولذا تجده يقول لك جربت هذا الحل فلم أستطع، وحاولت هذا المسلك فلم أنجح.

نعم لاشك أن هناك أموراً معينة قد ينصح بها العبد ليتخلص من معصية محددة، لكنها مع ذلك تبقى مرهونة بوجود العزيمة الصادقة وبدونها لا يمكن أن تصنع هذه الخطوات شيئاً يذكر.




خاتمة

وأخيراً:

أخي القاريء الكريم :
هذا نتاج الخاطر المكدود، وهاهي حصيلة القلم الضعيف؛ وبعد ختام الجولة والتطواف مع ما سطره السلف الأوائل أهل الورع والتقوى والخشية، والعودة بعد ذلك لقراءة متأنية في واقعنا، بعد ذلك خرجت بهذه الكلمات والسطور، والتي آمل أن تكون منارات وإضاءات على طريق العبودية لله، ومعالم للمسافرين إلى الدار الآخرة.

وهي لا تعدو أن تكون رأي بشر ضعيف مقصر، يعتريه الهوى، والغفلة، والذهول والنسيان، فقد يزل القلم، أو تنبو العبارة، فتقرأ ما ترى أن الحق بخلافه، أو يقع نظرك على عبارة غيرها أولى منها، أو مقالة لأحد سلف الأمة منع عدم وقوف الكاتب عليها، من إيرادها في موضعها، أو الاستشهاد بها.

فالمناصحة، والتعاون على البر والتقوى شأن المؤمنين، وديدن الصالحين، فأنا بانتظار ما يسطره القارئ الكريم: ناصحاً، ومسدداً، ومستدركاً، ومؤيداً.
وأسأل المولى عز وجل في ختام هذه السطور أن يمن علي وإياك بالنجاة من شؤم المعصية، ومفارقة سبيل الظالمين، والسير في ركاب الموحدين؛ إنه سميع مجيب، والحمد لله أولاً وآخراً.
وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.