بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، أما بعد:





لا شك أن اغتنام مواسم الخير والطاعات أمر عظيم، وثواب وأجر كبير من الله –سبحانه وتعالى.

وها قد أدى حجاج بيت الله الحرام ركن عظيم من أركان الإسلام، فلبى الطائفون، وكبّر
المكبرون، وذكر الذاكرون، وباهى الله –عزّ وجلّ- بهم ملائكته، فعن النبي –صلى الله
عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِأَهْل عَرَفَاتْ مَلَائِكَة السْمَاءِ فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى
عِبَادِي جَاَءُونِي شُعْثًا غُبْرًا". أخرجه أحمد وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقى. قال الشيخ
الألباني: (صحيح)
فهنيئًا لمن تقبل الله منه ورجع كيوم ولدته أمه.

وقبله كان شهر رمضان المبارك، حيث صام المسلمون، وصلوا التراويح والقيام،
وسارعوا لختم القرآن الكريم مرات عديدة، وشهدوا ليلة القدر؛ فتقبل الله ممن خلُص
عمله، ورجى به ثواب الله -سبحانه وتعالى.




** لكن عندما نتأمل حال المسلمين بعد تلك المواسم، نجدهم قد أصبحوا قسمين:-


_
قسم عبد الله بقلبه وجوراحه، وظاهره وباطنه: وهم الذين زادوا إقبالًا على الله –عز
وجل-، و ازدادوا تمسُّكًا بأوامره، واجتنابًا لنواهيه، ورفعتهم تلك الأجواء الروحانية
العالية في مواسم الخيرات إلى الله –سبحانه وتعالى-، فكأن أجسادهم على الأرض،
وقلوبهم تحلق حول العرش.
وهذه من علامات قبول الله –سبحانه وتعالى- لأعمالهم في تلك الأيام.

- وقسم كانت عبادته لا تتجاوز جوارحه: فربما كان في تلك المواسم يحافظ على
الصلوات الخمس، بل وربما السنن اليومية، بل وقيام الليل أيضًا!
ودائمًا يحمل كتاب الأذكار ليردد منه، ويسعى لختم القرآن أكثر من مرة –كما هو حال
أغلب الناس في رمضان مثلًا-، ثم تنقضي تلك المواسم، وتنقضي أيضًا أعماله معها!

فتبحث عنه بعد ذلك، لتجده يصلي فريضة ويترك أخرى، بل ربما يتركها كلها تكاسلًا!
والسنن كأنها كانت لا تُصلى إلا بضعة أيام في السنة!
وقيام الليل لا يقدر عليه، لأنه مشغول ومتعب بعد أن قضى يومه أمام البرامج
والإنترنت، ومحادثة هذا وذاك، أو ربما كان في عمله، لكنه لا يقدر على أن يقوم ليلًا
ليصلي لله –عز وجل-!
أما الأذكار فنُسيت بل مُحيت من الذاكرة، بعد أن أصبحت الموسيقى والأغاني هي ذكره
ليل نهار! أما مصحفه .. فقد علاه التراب بعد أن تركه أيامًا لا يفتحه!

والمتأمل في حال الناس يجد أغلبهم –إلا ما رحم الله- من القسم الثاني، وكأننا أصبحنا
لا نعبد الله –عز وجل- إلا في المواسم فقط ، كرمضان وعشر ذي الحجة وغيرها.

وما أشد الخسارة إن رُدَّ العملَ على صاحبهِ، وباء بالخسران المبين في الدين والدنيا،
وقد غفل أن الأهم من العمل، هو قبول العمل نفسه.

وأُثر عن عليّ -رضي الله عنه- أنه قال: "كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل"
ألم تسمعوا الله -عز وجل- يقول : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]؟




** ومن علامات قبول العمل الصالح المداومة عليه:
سواء كان ذلك في موسم الحج أو موسم رمضان أو غيره ..

فليس من الأدب مع الله –عز وجل- أن نعبده في رمضان ولا نعبده باقي العام، أو أن
نعبده في الحج ونترك عبادته بعد ذلك.
فالله –سبحانه وتعالى- هو ربّ رمضان وربّ ذي الحجة وربّ باقي الأشهر. وإننا
بذلك نكون قد جمعنا حسناتنا في كيس مثقوب، فما جمعناه من خير عظيم وأجر كبير
في شهر، نضيعه نحن باقي العام بعودتنا لما كنا عليه قبل ذلك من معاصي وذنوب.

لذا كان على المسلم المداومة على الأعمال الصالحة في كل وقت وحين، فإن فرائض
الله –عز وجل- إنما فُرضت على الدوام، وهي أحبّ الأعمال إلى الله –سبحانه
وتعالى- كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"
صحيح البخاري.


وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم المداومة على الأعمال الصالحة، فعن
عائشة- رضي الله عنها - قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته)
رواه مسلم.



** ومن علامات القبول أيضًا بعد مواسم الخيرات:
محاسبة النفس .. فالعمر قصير والأيام تجري، وما هي إلا أيام –طالت أو قصرت-
وتجد نفسك في القبر، ليس معك صاحب ولا مال ولا ولد، ولن يكون معك إلا عملك،
فلو كان صالحًا فاعلم أنه يكون بالمداومة عليه، وإن كان غير ذلك، فلتبدأ الآن
بمحاسبة نفسك على التهاون والتقصير. ولنسأل أنفسنا عدة أسئلة -كنّا أشد الناس
حرصًا على أن نحاسب أنفسنا عليها في مواسم الطاعات:


(*) فهل تذكرنا اليوم الموت والقبر ؟ هل قرأنا شيئاً من القرآن ؟ هل ثابرنا على
الأذكار والأوراد دبر كل صلاة ؟ هل كنا خاشعين في الصلاة ؟ هل سألنا الله الجنة ؟
واستعذنا به من النار ؟ هل استغفرنا اليوم من ذنوبنا ؟هل تجنبنا كل مالا يرضي الله
عز وجل ؟ هل فكرنا في الابتعاد عـن قرناء السوء ؟ هل نظفنا قلوبنا من الكبرياء
والحسد والحقد وألسنتنا من الغيبة والنميمة والكذب ؟ هل تركنا النظر إلى ما حرم الله
؟ هل تركنا سماع ما حرم الله ؟ هل أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر ؟ هل بذلنا
الغالي والرخيص من أجـل نصرة ديننا والعمل له ؟ وهل .. وهل .. وهل ... ؟(*)


فلنحاسب أنفسنا على ما مضى، ونغتم ما بقى، ولنكن من أشد الناس حرصًا على العمل
الصالح في مواسم الخيرات وفي غيرها من أيام الله –عز وجل-، لنحقق الإسلام الذي
أراده الله لنا، لا ما نختاره نحن لأنفسنا في أيام معينة من السنة.