بسم الله الرحمن الرحيم


ها هم طلائع المبتعثين يعودون إلى أوطانهم بعد طول غياب وحقبة من الزمن، قضوها في ديار الغربة بعيداً عن الأهل والأحبة، في لهفة إلى أحبابهم وحنين إلى أوطانهم، جميع العيون ترقبهم، وأوطانهم في شوق إليهم، ليُفتح لهم الطريق فيسلكوه ويُمهد لهم الهدف فيطلبوه، نفوسهم تواقة إلى البناء والعلياء، عقولهم وثابة إلى الجديد والمفيد من غير كلل ولا ملل.
ومع هذا كله يتبادر إلى الذهن سؤالان مهمان.. الأول بماذا قدِمتم؟ والثاني ماذا خلفتم؟
لاشك أن الأول مهم جداً، وهو الغاية من الابتعاث، فالكل يعلم أنهم قدِموا بشتى العلوم والمعارف التي تخدم مجتمعهم وأمتهم.
ولكن الغالب يخفى عليه السؤال الثاني وهو ماذا خلفتم وراءكم؟ وماذا تركتم لمن بعدكم؟. محمد أحد من ذهب لدراسة اللغة في إحدى الدول الغربية في أيام الثمانينيات، رجع إلى أهله ووطنه بعد إتمام الدراسة وقد خلف وراءه شيئاً كان له الأثر العظيم.. لكن ما هو هذا الشيء؟ أترككم معه ليخبرنا هو ماذا خلف.
يقول محمد: عندما ذهبت للخارج وكان عمري آنذاك الـ22 ربيعاً، بالطبع كانت الإقامة لدى عائلة بمبلغ قدره 400 دولار شهرياً مقابل السكن والطعام. كانت تجربة جديدة لمحمد وهو في عمر الزهور والقوة والفتوة.
يقول: كانت العائلة مكونة من امرأة عجوز فقط لا زوج ولا أبناء هي وحدها في هذا البيت الكبير.
يقول محمد: مر الأسبوع الأول والثاني والأمور على أحسن حال.. لكن المفاجأة التي لم أكن أتوقعها ولم تخطر لي على بال هي أن المرأة كانت يهودية، مما جعلني أستشعر عداوة اليهود للمسلمين، ومع هذا قررت البقاء، ولم تثنِني يهوديتها عن مواصلة أهدافي وإتمام دراستي فكان الأمر طبيعياً. محمد أحد من ذهب لدراسة اللغة في إحدى الدول الغربية في أيام الث تطورت العلاقة وأخذت الحياة مع محمد تجري مجراها، أصبح محمد فرداً من أفراد البيت يستيقظ لصلاة الفجر، ومن ثم يتجه إلى المعهد، وقبلها يحرص على تنظيف غرفته وترتيبها.
لاحظ محمد سن هذه العجوز وضعفها، فأصبح يحرص على مساعدتها وإعداد طعامه بنفسه.
يقول محمد: كثيراً من الأحيان أجد سيارتها تحتاج إلى الغسيل فأبادر بغسلها، وغيرها من الأعمال المنزلية من غير أن يطلب مني.
هي أيضاً ومن حولهما كانوا يقدرون لمحمد حسن المعاملة وطيب الإقامة، فكانوا لا يعرضون أمامه الخمور في مناسباتهم وأعيادهم. وهكذا كان الاحترام المتبادل بينهم طول فترة إقامة محمد بينهم إلى أن مضت ستة أشهر وقد أنهى محمد دراسته وحان وقت الرحيل.
وفي لحظات الوداع وما أصعبها من لحظات ها هو محمد يقف أمام المنزل وينظر إليه نظرة الحاني، لا إلى البيت ولكن إلى صاحبة البيت، وكأنه يقول بلسان الحال قد عرفتك وعرفت حاجتك فمن لك من بعدي.. خرجت اليهودية لتودع الشاب المسلم..
تبادلا أجمل الكلمات وأرق العبارات، وذرفت بعض العبرات، أخيراً حان الوداع، توجه محمد نحو المركبة التي ستوصله إلى المطار..
محمد توقف.. اليهودية تناديه.
محمد: نعم.
اليهودية: محمد أريد أن أفعل شيئاً لم أفعله من قبل فلا تغضب.
محمد في استغراب يشوبه شيء من الوجل قال: حسناً
كانت المفاجأة.. ويقولها محمد وكله حياء كعادته ووجنتاه تحمران
يقول: أخذتني وضمتني إلى صدرها ضمة حتى ظننت أن أضلاعي ستختلف علي.
قالت له بصوت المحب الحزين: محمد جاء قبلك كثيرون ولكن أنا لم أرَ مثلك ولا مثل أخلاقك.
نعم هذا ما خلفه محمد الأخلاق والمبادئ الإسلامية، حسن التعامل ولين الجانب، الصدق والأمانة والتعاون والرحمة لهذه العجوز. نحن حالياً لا نستطيع التفوق عليهم بالسلاح المادي، ولكن أين نحن من السلاح المعنوي؟ تخيلوا كم هو الأثر الذي تركه محمد في نفس هذه اليهودية؟ تخيلوا لو أن المبتعثين من عام الثمانينيات على الأقل إلى وقتنا خلفوا ما خلفه محمد ماذا ستكون النتيجة؟ وكم سنغير من هؤلاء الذين يسميهم البعض «الكفرة» بأخلاقنا وقيمنا؟
محمد لم يحتَج إلى مزيد مال أو عتاد حتى يحقق هذا الإنجاز، بل كان يكفيه منطق جميل ووجه طليق، وهذا ما فعله، إننا نحتاج إلى تعليم شبابنا ماذا نخلف وراءنا وماذا نترك، إننا نحتاج إلى المحافظة على أخلاقنا وسمعتنا، فهي التي تبقى بعدنا وتعيش أكثر منا.
فتذكر يا من أنت على وشك الابتعاث، تذكر أنك ستخلف وراءك شيئاً لا محالة إما خير وإما شر، فاختَر لنفسك.. ولكن حاول أن تُخلف ما خلفه محمد تكن على خير وفي خير.. فإذا قررت فليكن ولكن.. من دون أحضان.