الحياة مرة اخرى..فن التفاعل مع الناس والحياة ..الفصل الاول
الى السيدة الرائعة
(الحاجة هدى )..
شكرا
.. أنا شاب في السادسة والعشرين.. من عمري .. ولكن وجهي يخبرك.. بأني أكبر من ذلك بكثير .. السادسة والأربعين.. على أقل تقدير .. كنت جالساً على السلم الحجري .. المؤدي إلى الباب الخلفي.. لملهي الأوقات السعيدة .. أحد الملاهي الصغيرة.. المنتشرة في شارع عماد الدين..بوسط القاهرة .. الحي الذي أعشقه.. وأعيش فيه .. الليل في نصفة الأول .. وأصوات الموسيقي.. الآتية من داخل الملهي.. تصلني خافتة .. الغيوم تتكاثف في السماء .. فتضفي رهبة.. على ذلك الشارع الجانبي .. كنت في انتظار (باهر) .. صديقي.. وقائد الفرقة.. التي كنت يوماً ما .. أحد أشهر عازفيها .. بجواري على الأرض .. تستقر حقيبة صغيرة .. تحوي داخلها.. على آلتي الحبيبة .. ناي جميل.. لا أملك غيره.. في دنياي البائسة .. سمعت صوت خطوات تمر إلى جواري .. كان القادم هو عم (إبراهيم).. حارس الملهى.. تجازوني.. دون أن يتلفت إليّ.. كعادة الجميع معي في هذه الأيام.. وفتح الباب .. فالتفت أنظر خلفي .. كان الباب يطل على كواليس المسرح .. وهناك شاهدت الفرقة الموسيقية.. بكامل عدتها .. وقد وقف عازف ناي.. "غيري".. على المنصة .. وراح يعزف بمهارة.. وهو يضرب الأرض بقدمه.. كإيقاع مصاحب .. إلى أن أنتهى من العزف .. وعلى الفور.. سمعت اصوات الاستحسان والتصفيق.. من جمهور الحاضرين .. الذين أعجبهم العزف كثيراً .. بعدها غادر العازف المنصة.. لتأخذ الفرقة قسط من الراحة .. خرج اثنين من أعضاء الفرقة.. من الباب الخلفي .. ووقفا يشعلان سيجارتيهما.. بالقرب مني .. وهما ينظران نحوي.. ويتهامسان .. في هذه اللحظة.. خرج (باهر).. ووقف إلى جوارهما .. رأيتهما يتحدثان معه بصوت منخفض .. بعدها أنفصل (باهر) عنهما.. وأقترب مني .. حاولت أن أغتصب ابتسامة.. أو أن ألصق واحدة على شفتي .. وابتعلت ريقي.. ثم قلت.. وأنا أضع يدي على حقيبة الناي "ماذا قلت يا (باهر).. لقد أحضرت طفلتي معي.. .. فلربما كنت في حاجة إلى شخص لديه بوق".. نظر (باهر) نحوي.. ثم هز رأسه وقال (( لا ياضياء .. ليس هذه المرة .. لقد افسدت كل شيء في المرة السابقة.. مما أضطرني إلى أن أشتري لك الخمر بنفسي.. حتى يستقيم الأمر )) ثم هز رأسه.. واستطرد قائلاً (( أنت وهذه الآلة لم تعودا تنتميان إلى عالم واحد)) نظرت نحوه بكبرياء مجروح.. وهتفت ((أنا .. خمرة .. لا لا .. لقد تخطيت هذه المرحلة .. أقسم لك)) حاولت في يأس أن تكون كلماتي مؤثرة.. بقدر الإمكان (( أنا أعرف مضار الخمر .. أنا لست عجوزاً إلى هذا الحد .. إن أمامي بصحة هذه الآلة.. العديد من السنوات اليانعة.. فأنا استطيع أن أكون الفتى الأول .. رقم واحد .. كل ما ينغي علي عمله.. هو.. أن أقلع عن عادة سيئة واحدة .. استمع إليّ يا (باهر) ..إن هذه الآلة الجميلة.. وهذه الألحان الرائعة القابعة داخلها.. أنت بنفسك تعلم إنني عندما أرفع هذا الشيء إلى فمي .. أستطيع أن أبكي كل من يسمعني )) وهممت بالوقوف.. كي استطيع الاسترسال.. في اقناع (باهر) بقدراتي .. ولكن هذه الحركة .. أفلتت زجاجة الخمر .. التي كنت أخفيها.. تحت معطفي .. فسقطت على الأرض.. وتحطمت بصوت مسموع .. نظر (باهر) نحو السائل المسكوب .. فنكست راسي.. أتطلع إلى الزجاجة المحطمة .. شاهدت (باهر) يكنس بقاياها بقدمة.. ويركلها إلى أرض الحارة المظلمة .. وهنا سمعت أحد العازفين.. يقول لزميله ساخراً (( إذا كان الرجل لديه العديد من الاصدقاء الجيدين.. فلماذا يستأجر أسوء أعدائه )) بالطبع كان يشير بكلامه إليّ .. وهنا رفع (باهر) نظره من الأرض.. دس يده في جيبه .. وأخرج ورقة من فئة الجنيهات العشر .. واخفاها في جيبي.. وهو يقول (( هذا من أجل صداقتنا الماضية)) أومأت براسي.. غير قادر على الكلام .. ولكني شعرت بالرقة في صوته.. وهو يتابع ((الأيام الجميلة .. ايام كنت تمتلك الناي الذهبي.. وتعزف عليه أعظم المقطوعات الموسيقية )) وصمت قليلاً.. ثم أردف (( لكنك بعت كل هذا بالخمر .. أدمتها.. وضيعت سمعتك وحياتك )) وامتلئت عيناه بالدموع.. وهو يقول في تأثر واضح (( لماذا فعلت بنفسك هكذا يا (ضياء) .. لماذا .. لماذا )) وراح يكررها كالمعتوه .. ظللت منكس الرأس لفترة طويلة .. استعدت خلالها عذابات حياتي كلها .. ثم قلت بصوت باكي (( تريد أن تعرف لماذا فعلت ذلك يا (باهر).. فعلت ذلك لأني .. لأني حزين .. لأني لا شيء على الاطلاق .. لأني سأعيش حياتي.. كلها.. فوق سطح متهدم قذر .. ولن استطيع التعرف على أي فتاة .. لأني إنسان خجول .. خجول .. خجول .. ولن أكون أي شيء.. لان نصفي هذا البوق .. فأنا لا أستطيع أن أتحدث مع الناس.. لا أستطيع أن أقيم علاقات اجتماعية مع أحد .. نصف لغتي هي العزف على هذه الآلة .. ولا يستطيع إنسان أن يتعامل مع الناس.. بنصف لغة )) ورحت اهبط درجات السلم.. وأنا أتابع كلامي .. الذي أوجهه لنفسي.. أكثر مما أوجهه (لباهر) ..( لكني عندما أكون مخموراً .. نعم يا(باهر).. عندما أكون مخموراً .. لا أرى كم هي قذرة جدران غرفتي .. لا أرى دورة المياه اللا إنسانية التي استخدمها .. حتى أنني لا أشعر بثقل الوقت ولا أن الساعات طويلة .. أشعر كأني روح إلهية.. في يدها بوق عظيم .. وعندما أضع ذلك البوق على شفتي .. تخرج منه الجواهر .. تخرج منه سيمفونية رائعة .. تخرج منها رائحة الزهور.. وليالي الصيف الجميلة .. يخرج..يخرج منه الجمال )) وصمت لحظات متفكرا ..قبل أن أتابع (( عندما أكون مخموراً يا (باهر).. فقط .. عندما أكون مخمورا)) ورحت أجر قدماي نحو ظلام الحارة .. ومن ورائي نظرات (باهر).. تلاحقني في إشفاق .. وأنا أتابع لنفسي (( يا الهي .. إنني أحمل كثيراً من التعاسة .. في داخل صدري كثيراً من الحزن .. أنا لا شيء .. بكل بساطة .. أنا لا شيء على الأطلاق .. أه يا ربي .. لقد سئمت حياتي هذه )) واستندت على الحائط .. ودفنت وجهي في زراعي.. وأجهشت بالبكاء .. وعندما هدئت قليلاً.. ملت على حقيبتي.. أفتحها في حنان .. أخرجت منها آلتي العزيزة .. ووضعتها على شفتي.. وبدأت في العزف .. في البداية .. انبعثت من الناي نغمات شفافة .. كأنها البلور .. عظيمة الجمال .. رقيقة .. ثم لم تلبس أصابعي أن عزفت ..رغماً عني .. ألحان شاذة منفرة.. في تتابع سقيم .. حملت هذه النغمات الخشنة .. كل ما يعتمل في نفسي.. من أحباط.. وغضب.. وفشل.. ويأس .. فقط جعلت أنفخ بكل ما اتيت من قوة .. وسرعان ما انتشر القبح في الهواء .. سرت في طريقي.. وأنا أنفخ في البوق.. نغمات مضطربة .. كما لو كنت أبكي حياتي في داخلها .. أنا ضياء الزين .. شاب صغير.. صناعته خلق الموسيقى الجميلة .. أنا شاب صغير بوجه رجل عجوز .. حياتي سلسلة من المستحيلات .. أنا مثل زهرة نبتت في قاعدة من الأسمنت المسلح .. أنا شاب على وشك أن يغادر سطح الأرض .. ليستقر في أعماقها
ضياء الزين
مواقع النشر (المفضلة)