صحيح مسلم
للإمام مسلم
وهو الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري. 206 - 261 هـ

الجزء الأول


مقدمة محمد فؤاد عبدالباقي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين. وبعد. فهذا هو الكتاب الثالث من أصول السنة الثمانية، التي خار الله لنا أن نخرجها معدودة الكتب والأبواب والأحاديث، بالأرقام المطابقة للتي وضعها مؤلف أصل كتاب "مفتاح كنوز السنة" وواضعو "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي" - بالنسخ الأصلية التي اعتمدوها في عملهم.
أخرجنا عام 1951 م موطأ الإمام مالك رضي الله عنه. وأخرجنا عام 1953 سنن الإمام ابن ماجه. وها نحن أولاء نعززهما بثالث. هو هذا الكتاب. صحيح الإمام مسلم بن الحجاج رضي الله عنه.
وقد اتخذ واضعو الكتابين، أساسا لعملهما، نسخة صحيح مسلم التي عليها شرح الإمام النووي المطبوعة عام 1283 هجرية بالمطبعة الكستلية.
وقد نشرها العلامة الشيخ حسن العدوي. ووقف على تصحيحها كل من الشيخ محمد السملوطي، والشيخ نصر أبو الوفا الهورني، والشيخ زين المرصفي، والشيخ محمود العالم.
وقد يدل "مفتاح كنوز السنة" على الحديث هنا، بذكر رقم الكتاب ومعه رقم الحديث.
ويدل "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي" على الحديث هنا؛ بذكر رقم الكتاب ومعه رقم الحديث. وزدت أنا من عندي شيئين: أحدهما عد أبواب كل كتاب ووضع رقم مسلسل لها. والثاني وضع رقم مسلسل لأحاديث الصحيح الأصلية، دون الطرق المتعددة لكل حديث. وهو الرقم الموضوع بين قوسين. وبه يستدل على أحاديث صحيح مسلم بالدقة لا بالتقريب أو التخمين.
وقد اعتمدت في تحقيق النص على هذا الشرح المطبوع بالمطبعة الكستلية المذكورة. وعليه، المطبوع بهامش شرح القسطلاني على البخاري، طبعة بولاق عام 1304 هـ.
وعلى النسخة المصححة أتم وأدق تصحيح، والمقيدة بالشكل الكامل، المطبوعة بدار الطباعة العامرة، بالأستانة، عام 1329 هـ
وهذه النسخة لم يأل القائمون على طبعها جهدا في تصحيحها ومراجعة النسخ المخطوطة التي كانت تحت أيديهم. وقد تضافرت على تصحيحها كل من: العلامة النحرير الحاج محمد ذهني أفندي، والشيخ إسماعيل بن عبدالحميد محمد الطرابلسي، والعلامة أبي نعمة الله الحاج محمد شكري بن حسن الأنقروي. بعد تصحيح مصححي المطبعة المذكورة: أحمد رفعت بن عثمان حلمي القره حصاري، والحاج محمد بن عزت بن الحاج عثمان الزعفران بوليوي، رضي الله عنهم أجمعين.
وقد علقت على المتن خلاصة وزبدة شرح الإمام النووي، مع زيادات من أئمة اللغة.
وطبعة الأستانة هذه هي التي اعتمدتها في تجزئة الكتاب. وهي تقع في ثمانية أجزاء. جعلت كل جزأين منها جزءا واحدا. فيصدر الكتاب، إن شاء الله تعالى في أربعة أجزاء.
وقد خصصت الجزء الخامس لهذه الفهارس:
أولا - مفتاح الصحيح. وهو عبارة عن جميع الأحاديث القولية النبوية الشريفة التي تضمنها الصحيح، مرتبة ترتيبا ألف بائيا على حسب أوائل كلماتها. ومدلول على موضع كل حديث بذكر رقم الصفحة.
ثانيا - فهرس ألف بائي بأسماء الصحابة الذين روى الإمام مسلم أحاديثهم في صحيحه، ومع كل صحابي أرقام أحاديثه التي رواها.
ثالثا - سرد أرقام الأحاديث التي اتفق فيها الإمام مسلم في صحيحه مع الإمام البخاري في صحيحه، وذكر الرقم المسلسل لحديث البخاري الذي اتفق مع مسلم، مأخوذا من طبعة صحيح البخاري، التي سنقدمها، إن شاء الله، عقب إخراج صحيح مسلم منبها فيها على طرق كل حديث.
رابعا - سرد أرقام الأحاديث التي انفرد الإمام مسلم في صحيحه.
خامسا - الفهرس العام لموضوعات الكتاب، بذكر أسماء الكتب مع أرقامها ثم سرد الأبواب التي تحت كل كتاب بأرقامها أيضا ... الخ.
ويتبع ذلك ترجمة مستوفاة للإمام مسلم، والكلام على صحيحه ودرجته بين كتب الحديث.
وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
جزيرة الروضة في 22 من شهر ربيع الأول عام 1374 هـ الموافق 19 من شهر نوفمبر عام 1954 م.
(خادم الكتاب والسنة)
محمد فؤاد عبدالباقي
{هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } (62 سورة الجمعة / الآية 2).

مقدمة الإمام مسلم رحمه الله
@بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والعاقبة للمتقين. وصلى الله على محمد خاتم النبيين. وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. أما بعد فإنك، يرحمك الله بتوفيق خالقك، ذكرت أنك هممت بالفحص ((الفحص) شدة الطلب والبحث عن الشيء. يقال: فحصت عن الشيء وتفحصت وافتحصت بمعنى واحد). عن تعرف جملة الأخبار المأثورة ((أي المنقولة المذكورة. يقال: أثرت الحديث إذا نقلته عن غيرك). عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سنن الدين وأحكامه. وما كان منها في الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب، وغير ذلك من صنوف الأشياء. بالأسانيد التي بها نقلت، وتداولها أهل العلم فيما بينهم. فأردت، أرشدك الله، أن توقف ((توقف) ضبطناه بفتح الواو وتشديد القاف. ولو قرئ بإسكان الواو وتخفيف القاف لكان صحيحا). على جملتها مؤلفة ((مؤلفة) أي مجموعة) محصاة ((محصاة) أي مجتمعة كلها). وسألتني أن ألخصها ((ألخصها) أي أبينها). لك في التأليف بلا تكرار يكثر. فإن ذلك، زعمت ((زعمت) أي قلت. وقد كثر الزعم بمعنى القول. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: زعم جبريل. وفي حديث ضمام بن ثعلبه رضي الله عنه: زعم رسولك. وقد أكثر سيبويه في كتابه المشهور من قوله: زعم الخليل كذا. في أشياء يرتضيها سيبويه. فمعنى زعم، في كل هذا، قال)، مما يشغلك عما قصدت. من التفهم فيها، والاستنباط منها. وللذي ((وللذي الخ) هو بكسر اللام. وهو خبر عاقبة). سألت، أكرمك الله، حين رجعت إلى تدبره، وما تؤول به الحال إن شاء الله، عاقبة محمودة، ومنفعة موجودة. وظننت، حين سألتني تجشم ((تجشم) أي تكلفه والتزم مشقته) ذلك أن لو عزم ((عزم) قيل معناه لو سهل لي سبيل العزم، أو خلق في قدرة عليه. وقيل: العزم هنا بمعنى الإرادة والنية متقاربات، فيقام بعضها مقام بعض) لي عليه، وقضي لي تمامه، كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي خاصة، قبل غيري من الناس. لأسباب كثيرة. يطول بذكرها الوصف. إلا أن جملة ذلك، أن ضبط القليل من هذا الشان وإتقانه، أيسر على المرء من معالجة الكثير منه. ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام. إلا بأن يوقفه ((يوقفه) هو بتشديد القاف. ولا يصح أن يقرأ هنا بتخفيف القاف) على التمييز غيره. فإذا كان الأمر في هذا كما وصفنا. فالقصد منه إلى الصحيح القليل، أولى بهم من ازدياد السقيم. و إنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشان، وجميع المكررات منه، لخاصة من الناس. ممن رزق فيه بعض التيقظ، والمعرفة بأسبابه وعلله. فذلك إن شاء الله، يهجم ((يهجم) هو بفتح الياء وكسر الجيم. هكذا ضبطناه. وهكذا هو في نسخ بلادنا وأصولها. وذكر القاضي عياض رحمه الله أنه روى كذا. وروى ينهجم. قال: ومعنى يهجم يقع عليها ويبلغ إليها وينال بغيته منها. قال بن دريد: انهجم الخباء إذا وقع) بما أوتي من ذلك على الفائدة في الاستكثار من جمعه. فأما عوام الناس الذين هم بخلاف معاني الخاص، من أهل التيقظ والمعرفة، فلا معنى لهم في طلب الكثير، وقد عجزوا ((عجزوا) العجز في كلام العرب أن لا تقدر على ما تريد) عن معرفة القليل.
ثم إنا، إن شاء الله، مبتدئون في تخريج ما سألت وتأليفه، على شريطة ((شريطة) قال أهل اللغة: الشرط والشريطة لغتان بمعنى واحد. وجمع الشرط شروط. وجمع الشريطة شرائط) سوف أذكرها لك. وهو إنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عنه وسلم فنقسمها على ثلاثة أقسام. وثلاث طبقات ((طبقات) الطبقة هم القوم المتشابهون من أهل العصر) من الناس. على غير تكرار. إلى أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى، أو إسناد ((أو إسناد) هو مرفوع معطوف على قوله موضع). يقع إلى جنب إسناد، لعلة تكون هناك. لأن المعنى الزائد في الحديث، المحتاج ((المحتاج) هو بالنصب، صفة للمعنى) إليه، يقوم مقام حديث تام. فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة. أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره ((اختصاره) الاختصار هو إيجاز اللفظ مع استيفاء المعنى. وقيل رد الكلام الكثير إلى قليل فيه معنى الكثير. وسمي اختصارا لاجتماعه) إذا أمكن. ولكن تفصيله ربما عسر من جملته. فإعادته بهيئته، إذا ضاق ذلك، أسلم.
فأما ما وجدنا بدا من إعادته بجملته، من غير حاجة منا إليه، فلا نتولى فعله إن شاء الله تعالى.
فأما القسم الأول، فإنا نتوخى ((نتوخى) معناه نقصد. يقال توخى وتأخى وتحرى وقصد بمعنى واحد) أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى ((وأنقى) معطوف على قوله أسلم. وهنا تم الكلام. ثم ابتدأ بيان كونها أسلم وأنقى فقال: من أن يكون ناقلوها الخ) من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا. لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد. ولا تخليط فاحش. كما قد عثر ((عثر) أي اطلع. من قول الله تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما) فيه على كثير من المحدثين. وبان ذلك في حديثهم.
فإن نحن تقصينا ((تقصينا) معناه أتينا بها كلها. يقال اقتص الحديث، وقصه، وقص الرؤيا؛ أتى بذلك الشيء بكماله) أخبار هذا الصنف من الناس، أتبعنا أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان. كالصنف المقدم قبلهم. على أنهم، وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر ((الستر) هو بفتح السين، مصدر سترت الشيء أستره سترا. ويوجد في أكثر الروايات والأصول مضبوطا بكسر السين. ويمكن تصحيح هذا على أن الستر يكون بمعنى المستور. كالذبح بمعنى المذبوح ونظائره) والصدق وتعاطي العلم يشملهم ((يشملهم) أي يعمهم. وهو بفتح الميم على اللغة الفصيحة. ويجوز ضمها في لغة) كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم ((وأضرابهم) فمعناه أشباههم. وهو جمع ضرب. قال أهل اللغة: الضريب، على وزن الكريم، والضرب وهما عبارة عن الشكل والمثل. وجمع الضرب أضراب، وجمع الضريب ضرباء. ككريم وكرماء)، من حمال الآثار ونقال الأخبار.
فهم بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة. لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سنية.
ألا ترى أنك إذا وازنت ((وازنت) معناه قابلت. قال القاضي عياض: ويروى وازيت بالياء أيضا، وهو بمعنى وازنت) هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم، عطاء ويزيد وليثا، بمنصور بن المعتر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد، في إتقان الحديث و الاستقامة فيه، وجدتهم مباينين لهم. لا يدانونهم لاشك عند أهل العلم بالحديث في ذلك. للذي استفاض عندهم من صحة الحديث عند منصور والأعمش وإسماعيل. وإتقانهم لحديثهم. وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد وليث.
وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران، كابن عون وأيوب السختياني، مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني وهما صاحبا الحسن وابن سيرين. كما أن بن عون وأيوب صاحباهما. إلا أن البون ((البون) معناه الفرق. أي أنهما متباعدان) بينهما وبين هاذين بعيد في كمال الفضل وصحة النقل. وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم. ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم.
وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية، ليكون تمثيلهم سمة ((ليكون تمثيلهم سمة) السمة العلامة) يصدر ((يصدر) أي يرجع. يقال: صدر عن الماء والبلاد والحج، إذا انصرف عنه بعد قضاء وطره. فمعنى يصدر عن فهمهما، ينصرف عنها بعد فهمها وقضاء حاجته منها) عن فهمها من غبي ((غبي) أي خفي) عليه طريق أهل العلم في ترتيب أهله فيه. فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته. ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته. ويعطي كل ذي حق فيه حقه. وينزل منزلته.
وقد ذكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله علية وسلم أن ننزل الناس منازلهم. مع ما نطق به القرآن من قول الله تعالى: {وفوق كل ذي علم عليم}.
فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه، نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون. أو عند الأكثر منهم. فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم. كعبدالله بن مسور أبي جعفر المدائني. وعمرو بن خالد، وعبدالقدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن إبراهيم، وسليمان بن عمرو أبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد ((وتوليد الأخبار) معناه إنشاؤها وزيادتها) الأخبار.
وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، أمسكنا أيضا عن حديثهم.
وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عرضت روايته للحديث عن رواية غيره من أهل الحفظ والرضا، خالفت روايته روايتهم. أو لم تكد ((لم تكد توافقها) معناه لا توافقها إلا في قليل. قال أهل اللغة: كاد موضوعة للمقاربة. فإن لم يتقدمها نفي كانت لمقاربة الفعل، ولم يفعل. كقوله تعالى: يكاد البرق يخطف أبصارهم. وإن تقدمها نفي كانت للفعل بعد بطء. وإن شئت لمقاربة عدم الفعل. كقوله تعالى: {فذبحوها وما كادوا يفعلون}) توافقها. فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك، كان مهجور الحديث، غير مقبولة ولا مستعمله.
فمن هذا الضرب من المحدثين عبدالله بن محرر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبدالله بن ضميرة، وعمر بن صهبان. ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث. فلسنا نعرج على حديثهم. ولا نتشاغل به.
لأن حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث، أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا. وأمعن في ذلك على الموافقة لهم. إذا وجد كذلك، ثم ذاد بعد ذلك شيئا ليس عند أصحابه، قبلت زيادته.
فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك. قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره. فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس. والله أعلم.
قد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض ما يتوجه به ((يتوجه به) يقصد طريقهم ويسلك مذهبهم) من أراد سبيل القوم ((سبيل القوم) السبيل الطريق. وهما يؤنثان ويذكران) ووفق لهما ((ووفق لهما) التوفيق خلق قدرة الطاعة). وسنزيد، إن شاء الله تعالى، شرحا وإيضاحا في مواضع من الكتاب. عند ذكر الأخبار المعللة. إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح، إن شاء الله تعالى.
وبعد، يرحمك الله، فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا، فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة، والروايات المنكرة، وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة، مما نقله الثقات المعروفين بالصدق والأمانة. بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم، أن كثيرا مما يقذفون به ((يقذفون به) أي يلقونه إليهم) إلى الأغبياء ((الأغبياء) هم الغفلة والجهال والذين لا فطنة لهم) من الناس هو مستنكر، ومنقول عن قوم غير مرضيين، ممن ذم الرواية عنهم أئمة أهل الحديث. مثل مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبدالرحمن بن مهدي، وغيرهم من الأئمة - لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل.
ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة، بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها، خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت.
(1) باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين، والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
@واعلم، وفقك الله تعالى، أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها. و ثقات الناقلين لها، من المتهمين. أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه. والستارة ((والستارة) ما يستتر به، وكذلك السترة. وهي هنا إشارة إلى الصيانة) في ناقليه. وأن يتقي منها ((وأن يتقي منها) ضبطناه بالتاء المثناة فوق، بعد المثناة تحت، وبالقاف. من الاتقاء وهو الاجتناب. وفي بعض الأصول وأن ينفى بالنون والفاء، وهو صحيح أيضا. وهو بمعنى الأول) ما كان منها من أهل التهم والمعاندين. من أهل البدع.
والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه - قول الله جل ذكره: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}. وقال جل ثناؤه: {ممن ترضون من الشهداء}. وقال عز وجل: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}. فدل بما ذكرنا من هذه الآي - أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر، وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيهما. إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم. كما أن شهادته مردودة عند جميعهم. ودلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار.
كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق. وهو الأثر المشهور ((وهو الأثر المشهور) هذا جار على المذهب المختار الذي قاله المحدثون وغيرهم، واصطلح عليه السلف وجماهير الخلف. وهو أن الأثر يطلق على المروي مطلقا. سواء كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حدث عني بحديث يري أنه كذب فهو أحد الكاذبين". ((يري) ضبطناه يري بضم الياء. وذكر بعض الأئمة جواز فتح الياء من يرى وهو ظاهر حسن. فأما من ضم الياء فمعناه يظن. وأما من فتحها فظاهر، ومعناه وهو يعلم). (فهو أحد الكاذبين) قال القاضي عياض: الرواية فيه عندنا الكاذبين على الجمع. ورواه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه المستخرج على صحيح مسلم، في حديث سمرة، الكاذبين، بفتح الباء وكسر النون على التثنية).
حدثنا بكر بن أبي شيبة. حدثنا وكيع، عن شعبة، عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة بن جندب. ح وحثنا بكر بن أبي شيبة أيضا. حدثنا وكيع، عن شعبة وسفيان، عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب، عن المغيرة بن شعبة؛ قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
(2) باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1 - (1) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا غندر، عن شعبة. ح وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار. قالا: حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة، عن منصور، عن ربعي بن حراش؛ أنه سمع عليا رضي الله عنه يخطب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار".
2 -(2) وحدثني زهير بن حرب. حدثنا إسماعيل، يعني ابن علية، عن عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك؛ أنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار".
[ش (فليتبوأ مقعده من النار) قال العلماء: معناه فلينزل. وقيل: فليتخذ منزله من النار. قال الخطابي: أصله من مباءة الإبل، وهي أعطانها].
3 - (3) وحدثنا محمد بن عبيد الغبري. حدثنا أبو عوانة، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
4 - (4) وحدثنا محمد بن عبدالله بن نمير. حدثنا أبي. حدثنا سعيد بن عبيد. حدثنا علي بن ربيعة؛ قال: أتيت المسجد. والمغيرة أمير الكوفة. قال فقال المغيرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد. فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
وحدثني علي بن حجر السعدي. حدثنا علي بن مسهر. أخبرنا محمد بن قيس الأسدي، عن علي بن ربيعة الأسدي، عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ولم يذكر "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد".
[ش (قوله ربيعة الأسدي) كذا في النسخ التي بأيدينا. والصواب فيه سكون السين. انظر مستدركات الزبيدي في: و ل ب].
(3) باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.
5 - (5) وحدثنا عبيدالله بن معاذ العنبري. حدثنا أبي. ح وحدثنا محمد بن المثنى. حدثنا عبدالرحمن بن مهدي. قالا: حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع".
وحدثنا بن أبي بكر بن أبي شيبة. حدثنا علي بن حفص. حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم. عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك.