وسمي السيل جارفا لاجترافه ما على وجه الأرض. والجرف الغرف من فوق الأرض وكسح ما عليها. وأما الطاعون فوباء معروف. وهو بثر وورم مؤلم جدا يخرج من لهب ويسود ما حوله أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة. ويحصل معه خفقان القلب والقيء].
وحدثني حسن بن علي الحلواني. قال حدثنا يزيد بن هارون. أخبرنا همام. قال: دخل أبو داود الأعمى على قتادة. فلما قام قالوا: إن هذا يزعم أنه لقي ثمانية عشر بدريا. فقال قتادة: هذا كان سائلا قبل الجارف. لا يعرض في شيء من هذا. ولا يتكلم فيه. فوالله ما حدثنا الحسن عن بدري مشافهة. ولا حدثنا سعيد بن المسيب عن بدري مشافهة، إلا عن سعد بن مالك.
[ش (لا يعرض لشيء من هذا) أي لا يعتني بالحديث].
حدثنا عثمان بن أبي شيبة. حدثنا جرير، عن رقبة؛ أن أبا جعفر الهاشمي المدني كان يضع أحاديث الناس. كلام حق. وليست من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ش (كلام حق) بنصب كلام، وهو بدل من أحاديث ومعناه كلام صحيح المعنى وحكمة من الحكم ولكنه كذب. فنسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو من كلامه صلى الله عليه وسلم].
حدثنا الحسن الحلواني. قال: حدثنا نعيم بن حماد. قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان. وحدثنا محمد بن يحيى. قال حدثنا نعيم بن حماد. حدثنا أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن يونس بن عبيد؛ قال: كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث.
حدثني عمرو بن علي، أبو حفص. قال سمعت معاذ بن معاذ يقول: قلت لعوف بن أبي جميلة: إن عمرو بن عبيد حدثنا عن الحسن؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حمل علينا السلاح فليس منا" قال: كذب، والله! عمرو. ولكنه أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث
[ش (من حمل علينا السلاح فليس منا) صحيح مروي من طرق. وقد ذكرها مسلم رحمه الله بعد هذا. ومعناه عند أهل العلم أنه ليس ممن اهتدى بهدينا واقتدى بعلمنا وعملنا وحسن طريقتنا. كما يقول الرجل لولده، إذا لم يرضى فعله: لست مني.
ومراد مسلم رحمه الله بإدخال هذا الحديث هنا بيان أن عوفا جرح عمرو بن عبيد وقال: كذاب. وإنما كذبه، مع أن الحديث صحيح لكونه نسبه إلى الحسن. وكان عوف من كبار أصحاب الحسن والعارفين بأحاديثه. فقال كذب في نسبته إلى الحسن. فلم يروي الحسن هذا، أو لم يسمعه هذا من الحسن. (أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث) معناه كذب بهذه الرواية ليعضد بها مذهبه الباطل الرديء، وهو الاعتزال. فإنهم يزعمون أن ارتكاب المعاصي يخرج صاحبه عن الأيمان ويخلده في النار. ولا يسمونه كافرا، بل فاسقا مخلدا في النار].
وحدثنا عبيدالله بن عمر القواريري. حدثنا حماد بن زيد. قال: كان رجل قد لزم أيوب وسمع منه. ففقده أيوب. فقالوا: يا أبا بكر إنه قد لزم عمرو بن عبيد. قال حماد: فبينا أنا يوما مع أيوب وقد بكرنا إلى السوق. فاستقبله الرجل. فسلم عليه أيوب وسأله. ثم قال له أيوب: بلغني أنك لزمت ذاك الرجل. قال حماد: سماه، يعني عمرا. قال: نعم. يا أبا بكر إنه يجيئنا بأشياء غرائب. قال يقول له أيوب: إنما نفر أو نفرق من تلك الغرائب.
[ش (نفر أو نفرق) شك من الراوي في إحداها. معناه إنما نهرب أو نخاف من هذه الغرائب].
وحدثني حجاج بن الشاعر. حدثنا سليمان بن حرب. حدثنا ابن زيد، يعني حمادا. قال قيل لأيوب : إن عمر بن عبيد روى عن الحسن قال: لا يجلد السكران من النبيذ . فقال: كذب.أنا سمعت الحسن يقول: يجلد السكران من النبيذ.
وحدثني حجاج. حدثنا سليمان بن حرب. قال: سمعت سلام بن أبي مطيع يقول: بلغ أيوب أني آتي عمرا. فأقبل علي يوما فقال: أرأيت رجلا لا تأمنه على دينه، كيف تأمنه على الحديث؟
وحدثني سلمة بن شبيب. حدثنا الحميدي. حدثنا سفيان. قال: سمعت أبا موسى يقول: حدثنا عمرو بن عبيد قبل أن يحدث.
[ش (يحدث) يعني قبل أن يصير معتزلا قدريا].
حدثني عبيدالله بن معاذ العنبري. حدثنا أبي. قال: كتبت إلى شعبة أسأله عن أبي شيبة قاضي واسط. فكتب إلي: لا تكتب عنه شيئا. ومزق كتابي.
وحدثنا الحلواني. قال: سمعت عفان قال: حدثت حماد بن سلمة عن صالح المري بحديث عن ثابت. فقال:كذب. وحدثت هماما عن صالح المري بحديث، فقال: كذبت.
وحدثنا محمود بن غيلان. حدثنا أو داود. قال: قال لي شعبة: إيت جرير بن حازم فقل له: لا يحل لك أن تروي عن الحسن بن عمارة. فإنه يكذب. قال لأبو داود: قلت لشعبة: وكيف ذاك؟ فقال:حدثنا عن الحكم بأشياء لم أجد لها أصلا. قال قلت له: بأي شئ؟ قال قلت للحكم أصلى النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد؟ فقال: لم يصل عليهم. فقال الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس؛ إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم ودفنهم. قلت للحكم: ما تقول في أولاد الزنا؟ قال: يصلى عليهم. قلت: من حديث من يروي؟ قال: يروي عن الحسن البصري. فقال الحسن بن عمارة: حدثنا الحكم بن يحيى بن الجزار عن علي.
وحدثنا الحسن الحلواني. قال: سمعت يزيد بن هارون، وذكر زياد بن ميمون، فقال: حلفت ألا أروي عنه شيئا. ولا عن خالد بن محدوج. وقال: لقيت زياد بن ميمون. فسألته عن حديث فحدثني به عن بكر المزني. ثم عدت إليه فحدثني به عن مورق. ثم عدت إليه فحدثني به عن الحسن. وكان ينسبهما إلى الكذب.
قال الحلواني: سمعت عبدالصمد، وذكرت عنده زياد بن ميمون، فنسبه إلى الكذب.
وحدثنا محمود بن غيلان. قال قلت لأبي داود الطيالسي: قد أكثرت عن عباد بن منصور. فمالك لم تسمع منه حديث العطارة الذي روى لنا النضر بن شميل؟ قال لي: اسكت. فأنا لقيت زياد بن ميمون، وعبدالرحمن بن مهدي فسألناه فقلنا له: هذه الأحاديث التي ترويها عن أنس؟ فقال أرأيتما رجلا يذنب فيتوب أليس يتوب الله عليه؟ قال قلنا: نعم. قال: ما سمعت من أنس، من ذا قليلا ولا كثيرا. إن كان لا يعلم الناس فأنتما لا تعلمان أني لم ألق أنسا.
قال أبو داود: فبلغنا، بعد، أنه يروي. فأتيناه أنا وعبدالرحمن فقال: أتوب. ثم كان، بعد، يحدث. فتركناه.
[ش (حديث العطارة) قال القاضي عياض رحمه الله: هو حديث رواه زياد بن ميمون هذا عن أنس أن امرأة يقال لها الحولاء، عطارة كانت بالمدينة. فدخلت على عائشة رضي الله عنها وذكرت خبرها مع زوجها وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لها فضل الزوج. وهو حديث طويل غير صحيح. (وعبدالرحمن بن مهدي) مرفوع معطوف على الضمير في قوله لقيت. (فأنتما لا تعلمان) هكذا وقع في الأصول. ومعناه فأنتما تعلمان. فيجوز أن تكون لا زائدة. معناه أفأنتما لا تعلمان؟ وقد يكون استفهام تقرير، وحذف همزة الاستفهام].
حدثنا حسن الحلواني قال: سمعت شبابة. قال: كان عبدالقدوس يحدثنا فيقول: سويد بن عقلة. قال شبابة: وسمعت عبدالقدوس يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ الروح عرضا. قال فقيل له: أي شئ هذا؟ قال: يعني تتخذ كوة في حائط ليدخل عليه الروح.
[ش (سمعت شبابة الخ) المراد بهذا المذكور بيان تصحيف عبدالقدوس وغباوته واختلال ضبطه وحصول الوهم في إسناده ومتنه. فأما الإسناد فإنه قال: سويد بن عقلة. وهو تصحيف ظاهر وخطأ بين. وإنما هو غفلة. وأما المتن، فقال: الروح، وعرضا. وهو تصحيف قبيح وخطأ صريح. وصوابه الروح، وغرضا. ومعناه نهى أن يتخذ الحيوان الذي فيه الروح غرضا، أي هدفا للرمي. فيرمى إليه بالنشاب وشبهه. (الروح) أي النسيم].
قال مسلم: وسمعت عبيدالله بن عمر القواريري يقول: سمعت حماد بن زيد يقول لرجل، بعد ما جلس مهدي بن هشام بأيام: ما هذه العين المالحة التي نبعت قبلكم؟ قال: نعم. يا أبا إسماعيل.
[ش (العين المالحة) كناية عن ضعفه وجرحه].
وحدثنا الحسن الحلواني. قال: سمعت عفان قال: سمعت أبا عوانة قال: ما بلغني عن الحسن حديث إلا أتيت به أبان بن أبي عياش، فقرأه علي.
[ش (ما بلغني عن الحسن حديث) معنى هذا الكلام أنه كان يحدث عن الحسن بكل ما يسأل عنه، وهو كاذب في ذلك].
وحدثنا سويد بن سعيد. حدثنا علي بن مسهر. قال: سمعت أنا، وحمزة الزيات من أبان بن أبي عياش نحوا من ألف حديث.
قال علي: فلقيت حمزة فأخبرني أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام. فعرض عليه ما سمع من أبان. فما عرف منها إلا شيئا يسيرا. خمسة أو ستة.
حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي. أخبرنا زكرياء بن عدي. قال: قال لي أبو إسحاق الفزاري: اكتب عن بقية ما روي عن المعروفين. ولا تكتب عنه ما روي عن غير المعروفين ولا تكتب عن إسماعيل بن عياش ما روي عن المعروفين، ولا عن غيرهم.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي. قال: سمعت بعض أصحاب عبدالله قال: قال ابن المبارك: نعم الرجل بقية. لولا أنه كان يكني الأسامي ويسمي الكنى. كان دهرا يحدثنا عن أبي سعيد الوحاظي. فنظرنا فإذا هو عبدالقدوس.
[ش (كان يكني الأسامي ويسمي الكنى) معناه أنه إذا روي عن إنسان معروف باسمه كناه ولم يسمه. وإذا روي عن معروف بكنيته سماه ولم يكنه. وهذا نوع من التدليس، وهو قبيح مذموم].
وحدثني أحمد بن يوسف الأزدي. قال سمعت عبدالرزاق يقول: ما رأيت ابن المبارك يفصح بقوله: كذاب إلا لعبدالقدوس. فإني سمعته يقول له: كذاب.
وحدثني عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي. قال: سمعت أبا نعيم. وذكر المعلى بن عرفان. فقال: قال: حدثنا أبو وائل قال: خرج علينا ابن مسعود بصفين. فقال أبو نعيم: أتراه بعث بعد الموت؟
[ش (أتراه) معناه أتظنه].
حدثني عمرو بن علي وحسن الحلواني، كلاهما عن عفان بن مسلم. قال: كنا عند إسماعيل بن علية. فحدث رجل عن رجل. فقلت إن هذا ليس بثبت. قال فقال الرجل: اغتبته. قال إسماعيل: ما اغتابه ولكنه حكم: أنه ليس بثبت.
وحدثنا أبو جعفر الدارمي. حدثنا بشر بن عمر. قال: سألت مالك بن أنس، عن محمد بن عبدالرحمن الذي يروي عن سعيد بن المسيب؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن صالح مولى التوأمة؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن أبي الحويرث؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن شعبة الذي روي عنه ابن أبي ذئب؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن حرام بن عثمان؟ فقال: ليس بثقة. وسألت مالكا عن هؤلاء الخمسة؟ فقال: ليسوا بثقة في حديثهم. وسألته عن رجل أخر نسيت اسمه؟ فقال: هل رأيته في كتبي؟ قلت: لا. قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي.
وحدثني الفضل بن سهل. قال حدثني يحيى بن معين. حدثنا حجاج. حدثنا ابن أبي ذئب عن شرحبيل بن سعد، وكان متهما.
وحدثني محمد بن عبدالله بن قهزاذ. قال: سمعت أبا إسحاق الطالقاني يقول: سمعت ابن المبارك يقول: لو خيرت بين أن أدخل الجنة وبين أن ألقى عبدالله بن محرر، لاخترت أن ألقاه ثم أدخل الجنة. فلما رأيته، كانت بعرة أحب إلي منه.
وحدثني الفضل بن سهل. حدثنا وليد بن صالح. قال: قال عبدالله بن عمرو: قال زيد، يعني ابن أبي أنيسة: لا تأخذوا عن أخي.
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي. قال: حدثني عبدالسلام الوابصي. قال: حدثني عبدالله بن جعفر الرقي، عن عبيدالله بن عمرو؛ قال: كان يحيى بن أبي أنيسة كذابا.
حدثني أحمد بن إبراهيم. قال: حدثني سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد؛ قال: ذكر فرقد عند أيوب. فقال: إن فرقدا ليس صاحب حديث.
وحدثني عبدالرحمن بن بشر العبدي. قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان، ذكر عنده محمد بن عبدالله بن عبيد بن عمير الليثي، فضعفه جدا. فقيل ليحيى: أضعف من يعقوب بن عطاء؟ قال: نعم. ثم قال: ما كنت أرى أن أحدا يروي عن محمد بن عبدالله بن عبيد بن عمير.
[ش (جدا) هو بكسر الجيم. وهو مصدر جد يجد جدا. ومعناه تضعيفا بليغا].
وحدثني بشر بن الحكم. قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان. ضعف حكيم بن جبير وعبدالأعلى. وضعف يحيى بن موسى بن دينار. قال: حديثه ريح. وضعف موسى بن دهقان، وعيسى بن أبي عيسى المدني. قال: وسمعت الحسن بن عيسى يقول: قال لي ابن المبارك: إذا قدمت على جرير فاكتب علمه كله إلا حديث ثلاثة. لا تكتب حديث عبيدة بن معتب. والسري بن إسماعيل. ومحمد بن سالم.
قال مسلم: وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير. يطول الكتاب بذكره، على استقصائه. وفيما ذكرنا كفاية. لمن تفهم وعقل مذهب القوم. فيما قالوا من ذلك وبينوا.
وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث. وناقلي الأخبار. وأفتوا بذلك حين سئلوا، لما فيه من عظيم الخطر. إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل، أو تحريم، أو أمر، أو نهي، أو ترغيب، أو ترهيب. فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة. ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره، ممن جهل معرفته، كان أثما بفعله ذلك. غاشا لعوام المسلمين. إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار التي يستعملها، أو يستعمل بعضها. ولعلها أو أكثرها أكاذيب. لا أصل لها. مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات. وأهل القناعة أكثر من يضطر إلى نقل من ليس بثقة. ولا مقنع.
[ش (أهل القناعة) أي الذين يقنع بحديثهم لكمال حفظهم وإتقانهم وعدالتهم. (مقنع) مثل جعفر. أي يقنع به. ويستعمل بلفظ واحد مطلقا].
ولا أحسب كثيرا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها، من التوهن والضعف - إلا أن الذي يحمله على روايتها، والاعتداد بها، إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال: ما أكثر ما جمع فلان من الحديث، وألف من العدد.
ومن ذهب في العلم هذا المذهب. وسلك هذا الطريق فلا نصيب له فيه. وكان بأن يسمى جاهلا، أولى من أن ينسب إلى علم.
وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها بقول، لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحا - لكان رأيا متينا، ومذهبا صحيحا.
[ش (لو ضربنا الخ) أي لو أعرضنا عن ذلك إعراضا. فصفحا مصدر من غير لفظه. وفي التنزيل الجليل: أفنضرب عنكم الذكر صفحا].
إذ الإعراض عن القول المطروح، أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله وأجدر ألا يكون ذلك تنبيها للجهال عليه. غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله، ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد - أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله.
[ش (وإخمال ذكر قائله) أي إسقاطه. والخامل الساقط. (أجدى على الأنام) معناه أنفع للناس].
وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله، والإخبار عن سوء رويته، أن كل إسناد لحديث فيه فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روي عنه قد سمعه عنه وشافهه به. غير أنه لا نعلم له منه سماعا ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط، أو تشافها بحديث - أن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء هذا المجيء، حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا في دهرهما مرة فصاعدا. أو تشافها في الحديث بينهما. أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما، وتلاقيهما، مرة من دهرهما. فما فوقها. فإن لم يكن عنده علم ذلك، ولم تأت رواية صحيحة تخبر أن هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرة، وسمع منه شيئا - لم يكن قد نقله الخبر عمن روى عنه ذلك، والأمر كما وصفنا، حجة. وكان الخبر عنده موقوفا. حتى يرد عليه سماعه منه لشيء من الحديث، قل أو كثر. في رواية مثل ما ورد.
[ش (رويته) أي فكره].
(6) باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن.
@وهذا القول، يرحمك الله، في الطعن في الأسانيد، قول مخترع. مستحدث غير مسبوق صاحبه إليه. ولا مساعد له من أهل العلم عليه.وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا، أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا، وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام؛ فالرواية ثابتة. والحجة بها لازمة. إلا أن يكون هناك دلالة بينة، أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئا. فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدا، حتى تكون الدلالة التي بينا.
فيقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته، أو للذاب عنه: قد أعطيت في جملة قولك أن خبر الواحد الثقة، عن الواحد الثقة، حجة يلزم به العمل. ثم أدخلت فيه الشرط بعد، فقلت: حتى نعلم أنهما قد كانا التقيا مرة فصاعدا، أو سمع منه شيئا. فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن أحد يلزم قوله؟ وألا فهلم دليلا على ما زعمت.
فإذا ادعى قول أحد من علماء السلف بما زعم من إدخال الشريطة في تثبيت الخبر، طولب به. ولن يجد هو ولا غيره إلى إيجاده سبيلا. وإن هو ادعى فيما زعم دليلا يحتج به قيل له: وما ذاك الدليل؟ فإن قال: قلته لأني وجدت رواة الأخبار قديما وحديثا يروي أحدهم عن الأخر الحديث ولما يعاينه ولا سمع منه شيئا قط، فلما رأيتهم استجازوا رواية الحديث بينهم هكذا على الإرسال من غير سماع، والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة - احتجت، لما وصفت من العلة، إلى البحث عن سماع راوي كل خبر عن راويه. فإذا أنا هجمت على سماعه منه لأدنى شيء، ثبت عنه عندي بذلك جميع ما يروى عنه بعد. فإن عزب عني معرفة ذلك، أوقفت الخبر ولم يكن عندي موضع حجة لإمكان الإرسال فيه.
[ش (فإن عزب عني) يقال عزب عني الشيء يعزب. والضم أشهر وأكثر، ومعناه ذهب. (أوقفت) كذا هو في الأصول أوقفت. وهي لغة قليلة. والفصيح المشهور وقفت، بغير ألف].
فيقال له: فإن كانت العلة في تضعيفك الخبر وتركك الاحتجاج به إمكان الإرسال فيه، لزمك ألا تثبت إسنادا معنعنا حتى ترى فيه السماع من أوله إلى آخره؟
وذلك أن الحديث الوارد علينا بإسناد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، فبيقين نعلم أن هشاما قد سمع من أبيه، وأن أباه قد سمع من عائشة. كما نعلم أن عائشة قد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يجوز، إذ لم يقل هشام، في رواية يرويها عن أبيه: سمعت أو أخبرني، أن يكون بينه وبين أبيه في تلك الرواية إنسان أخر، أخبره بها عن أبيه، ولم يسمعها هو من أبيه، لما أحب أن يرويها مرسلا. ولا يسندها إلى من سمعها منه.
وكما يمكن ذلك في هشام عن أبيه، فهو أيضا ممكن في أبيه عن عائشة.
وكذلك كل إسناد لحديث ليس فيه ذكر سماع بعضهم عن بعض.
وإن كان قد عرف في الجملة أن كل واحد منهم قد سمع من صاحبه سماعا كثيرا، فجائز لكل واحد منهم أن ينزل في بعض الرواية فيسمع من غيره عنه بعض أحاديثه، ثم يرسله عنه أحيانا، ولا يسمي من سمع منه. وينشط أحيانا فيسمي الرجل الذي حمل عنه الحديث ويترك الإرسال. وما قلنا من هذا موجود في الحديث مستفيض، من فعل ثقات المحدثين، وأئمة أهل العلم. وسنذكر من رواياتهم على الجهة التي ذكرنا عددا يستدل بها على أكثر منها إن شاء الله تعالى. فمن ذلك، أن أيوب السختياني وابن المبارك ووكيعا وابن نمير وجماعة غيرهم رووا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله ولحرمه بأطيب ما أجد.
[ش (لحله ولحرمه) يقال حرمه. لغتان. ومعناه لإحرامه].
فروى هذه الرواية بعينها الليث بن سعد وداود العطار وحميد بن الأسود ووهيب بن خالد وأبو أسامة عن هشام؛ قال: أخبرني عثمان بن عروة، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى هشام، عن أبيه، عن عائشة؛ قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض.
فرواها بعينها مالك بن أنس، عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الزهري وصالح بن أبي حسان، عن أبي سلمة، عن عائشة؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم.
فقال يحيى بن أبي كثير في هذا الخبر في القبلة: أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن؛ أن عمر بن عبدالعزيز أخبره أن عروة أخبره أن عائشة أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم.
وروى بن عيينة وغيره، عن عمرو بن دينار، عن جابر؛ قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر.
فرواه حماد بن يزيد، عن عمرو عن محمد بن علي، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا النحو في الروايات كثير. يكثر تعداده. وفيما ذكرنا منها كفاية لذوي الفهم.
فإذا كانت العلة عند وصفنا قوله من قبل، في فساد الحديث وتوهينه، إذا لم يعلم أن الراوي قد سمع ممن روي عنه شيئا، إمكان الإرسال فيه، لزمه ترك الاحتجاج في قياد قوله برواية من يعلم أنه قد سمع ممن روى عنه. إلا في نفس الخبر الذي فيه ذكر السماع. لما بينا من قبل عن الأئمة الذين نقلوا الأخبار، أنهم كانت لهم تارات يرسلون فيها الحديث إرسالا. ولا يذكرون من سمعوا منه. وتارات ينشطون فيها فيسندون الخبر على هيئة ما سمعوا. فيخبرون بالنزول فيه إذا نزلوا. وبالصعود إن صعدوا. كما شرحنا ذلك عنهم.
[ش (قياد) أي مقتضاه].
وما علمنا أحد من أئمة السلف، ممن يستعمل الأخبار ويتفقد صحة الأسانيد وسقمها، مثل أيوب السختياني وابن عون ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي ومن بعدهم من أهل الحديث، فتشوا عن موضع السماع في الأسانيد. كما ادعاه الذي وصفنا قوله من قبل.
وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم - إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به. فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته. ويتفقدون ذلك منه. كي تنزاح عنهم علة التدليس:
فمن ابتغى ذلك من غير مدلس، على الوجه الذي زعم من حكينا قوله، فما سمعنا ذلك عن أحد ممن سمينا، ولم نسم، من الأئمة.
[ش (فما ابتغى) هكذا وقع في أكثر الأصول. على ما لم يسم فاعله. وفي بعضها فما ابتغى. وفي بعض الأصول المحققة فمن ابتغى. ولكل واحد وجه].
فمن ذلك أن عبدالله بن يزيد الأنصاري، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قد روى عن حذيفة وعن أبي مسعود الأنصاري وعن كل واحد