السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

مَنْ حج لله فلم يرفث ولم يفسق ؛ رجع كيوم ولدته أمه » تلك كلمات معدودات قالهن أفضل خلق الله وأبرُّهم وأصدقهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، فيها فضل عظيم وخير عميم من الله الغني عن العالمين ، وقد دل على ذلك أيضاً نصوص كثيرة ؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص - رضي الله عنه - عندما جاء مسلماً وقال : « أريد أن أشترط . فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : تشترط بماذا ؟ قال : أن يغفر لي . قال : أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ! » [2] ، وغير ذلك كثير .
ولَكَمْ تتطلع النفس لتدرك : لِمَ كان هذا الفضل كله على تلك العبادة التي لم يُطالب بها المسلم إلا مرة في عمره ، وهذا التطلع ليس استكثاراً لفضل الله الواسع المنان ، فهو أهل الفضل والخير والبركة ، وإنما هي محاولة للوصول إلى الأسباب والمسوغات ؛ ليكون العلم بذلك قائداً إلى تحقيقها ، ومعيناً على تحصيلها على الوجه المرضي ، للفوز بذلك الفضل العظيم الذي أخبر به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
وبقراءة الحديث والتأمل في ألفاظه نجده قد اشتمل على أربعة عناصر ، هي :
أولاً : العبادة المطلوبة وهي الحج .
ثانياً : المتوجه بها إليه أو المقصود بها وهو الله تعالى .
ثالثاً : مضيعات هذه العبادة أو مفسداتها وهو الرفث والفسوق .
رابعاً : الجائزة وهي مغفرة الذنوب جميعها .
فمن قام بهذه العبادة على الوجه الذي شرعه الله تعالى ، قاصداً بذلك الله وحده ، متجافياً عما يخل بها أو يكدر صفوها ؛ ناله من ذلك ما أخبر به الرسول الصادق الوعد صلى الله عليه وسلم .
ولنعد بعد ذلك إلى تلك العناصر بشيء من التفصيل .
* أولاً : الحج : الحج لغة : القصد أو كثرة القصد إلى من تُعظِّم . وشرعاً : قصد بيت الله الحرام على هيئة مخصوصة ، في زمن مخصوص ، والإتيان بأفعال مخصوصة.
1 - الهجرة إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم :
من المعاني التي نلحظها في أداء عبادة الحج الهجرة إلى الله ورسوله ، ففي قيام المسلم به يترك ماله وولده وأهله وعمله ودياره ، ويقدم على الله جامعاً بين الخوف والرجاء ، فيطلب مغفرة ربه ويرجو رحمته وفضله ، قال الله تعالى في بيان استجابة المسلمين لهذه الهجرة : { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } ( الحج : 27 ) .
2 - المجاهدة في طاعة الله :
ومن المعاني التي نجدها في الحج بذل الجهد في طاعة الله تعالى ، فالمسلم الحاج يخرج من داره وبلده قاصداً بيت الله الحرام فيقدم في طائرة أو على ظهر سفينة أو دابة ، وأحياناً يقدم على رجليه محققاً بذلك عبادة ربه ، لا تحول بينه وبين ذلك الصعاب أو المشاق التي تعترض سبيله ، بل هو كما قال الله تعالى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } ( الحج : 27 ) .
3 - الأمة الواحدة :
أمة المسلمين واحدة مذ خلق الله تعالى آدم - عليه السلام - ، إلى أن يرث عز وجل الأرض ومن عليها ، جمع بينهم توحيد الله وعبادته ، فلم يعد شيء يقدر على التفريق بينهم ؛ لا جنس ولا شكل ولا لون ولا لغة ولا بلد ، وها هم المسلمون على تنوعاتهم الكثيرة في هذا الموسم العظيم يجمعهم موقف واحد لعبادة الله العلي الكبير .
4 - تعظيم الشرع والتسليم له :
المسلم معظِّم للشرع مقدِّم له على كل شيء ؛ على الآراء والأقوال ، على العقول والأفهام ، على الرجال ، على النفس والمال ، يرى الشريعة معصومة ، يقبل منها كل ما جاءت به وثبتت نسبته إليها ؛ حتى لو لم يستوعب ذلك عقله ، أو لم تتبين له في ذلك الحكمة ، ويظهر ذلك المعنى جلياً في الحج ، يظهر في كل شعيرة من شعائره ، وأظهر ما يكون في ذلك تقبيل الحجر الأسود ، فالحجر الأسود حجر ، والحجر لا يضر ولا ينفع ، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّله ، والمسلم المتبع لأجل ذلك يقبِّل الحجر ويحرص عليه اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وثقةً فيه .
5 - البراءة من الشرك وأهله :
من الأمور المحكمة التي دلت عليها النصوص الشرعية الثابتة من الكتاب والسنة ، وجوب البراءة من الشرك وأهله ، قال الله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } ( الممتحنة : 4 ) .
6 - مجانبة الكبر والبعد عنه تواضعاً لله تعالى :
المسلم متواضع في غير ذل ، عزير في غير كبر ، فإن الذل والكبر من الأخلاق الذميمة التي تأباها الشريعة والنفوس الشريفة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل الجنة مَنْ كان في قلبه مثقال ذرة من كبر »
7 - تزكية النفوس وتطهيرها :
حضت الشريعة المسلم على تزكية نفسه وتطهيرها ، وتحريرها من شح النفس وبخلها ، فأمرت بإعطاء الفقراء والمساكين حقهم من الزكوات ، وحثت على الإنفاق عليهم والإحسان إليهم ، ووعدت على ذلك الأجر الجزيل.
8 - منافع الدنيا والآخرة :
الحياة الدنيا هي معبر المسلم إلى الآخرة ، وهو محتاج إليها في تحقيق مراده من الفوز بالآخرة ، فالمسلم على ذلك لا يهجر الدنيا ولا يعتزلها متقوقعاً في زاوية أو ناحية ، وإنما هو يكون في وسطها يستخدمها ولا تستخدمه ، يطوعها لتحقيق الغايات الشرعية ، ويأخذ منها ومن بهجتها ما يعينه على ذلك ، والحج وهو من أعظم العبادات ، وأحد أركان دين الإسلام ، لم يُمنع المسلم من الانتفاع فيه بمنافع الدنيا .
9 - إكمال الدين :
يوم حج النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته نزل قوله تعالى : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 ) ، في هذا اليوم يوم عرفة من العام العاشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ أكمل الله لهذه الأمة دينها ، وأتم عليهم النعمة ، ورضي لهم الإسلام ديناً ، وهذه منة عظيمة من الله على عباده ، وكلما وقف المسلم على عرفة تذكر هذا الفضل ، وشكر الله على جزيل فضله وإنعامه ، وعاهد الله على أن لا يُؤتى الإسلام من قِبَله ، فإن الله لم يحوجه بعد إكمال الدين إلى غيره .
10 - الحج فريضة العمر :
العبادات مع الزمن أنواع ، فمن العبادات ما هو فريضة العام كصوم شهر رمضان ، ومنها ما هو فريضة الأسبوع كفريضة الجمعة ، ومنها ما هو فريضة اليوم ، وهي الصلوات الخمس ، ومنها ما هو فريضة العمر ، وهو الحج فلا يجب في العمر كله إلا مرة واحدة . .
* ثانياً : المقصود بالحج هو الله :
فالحج لُحْمَته وسُدَاه توحيد الله والإخلاص له ، وكذلك جاء التعبير في الحديث :
« مَنْ حجَّ لله » ، فهو يحج لله شاهداً بذلك على توحيده ، والتوحيد في هذه العبادة ملحوظ في ابتداء فرضه ، كما هو ملحوظ في أدائه عملاً من بدايته إلى نهايته .
* ثالثاً : مضيعات الحج ومفسداته :
الرفث والفسوق مانعان من الموانع التي تحول دون حصول الأجر على النحو المأمول ، فيمتنع الحاج من ذلك وينتهي عنه تطهيراً لنفسه ، وتزكية لها ، وصعوداً بها في مراقي العلا ، يقطعها عن عوائدها ، ليخرج الحاج من حظ نفسه وداعيتها ، إلى تكميل نفسه بالخُلُق الرفيع العالي والسلوك الحسن .
* رابعاً : جائزة الحاج :
ويا لها من جائزة ! غفران الذنوب جميعها ، فيرجع المسلم بعد أداء حجه على الوجه الذي يحبه الله ورسوله وما عليه خطيئة ، ويرجع إلى داره بعدما هاجر وجاهد وتبرأ من المشركين ، وعطف على الفقير والمسكين ، وحاله من البعد عن الذنوب والآثام كحاله يوم ولدته أمه ، صفحة بيضاء نقية لم تكدرها أو تشبها شائبة ، قال ابن حجر - رحمه الله - : « قوله : ( رجع كيوم ولدته أمه ) أي بغير ذنب ، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات » ..
فاالحج مدرسة ، مملوء فوائد وعبر ، وما ذكرت منه لم يكن إلا بعض القطوف الدانية ، والقطوف كثيرة مهيأة ومزينة ، وهي تنتظر مَنْ يقطفها >>

منقول