عندما تسرقنا أعباء الحياة عن أبجدية الروح، نصبح كالذي إن تحمل عليه يلهث، وإن تتركه يلهث.. وتكون الحياة في صورتها النهائية، لهاث وراء الخبز والماء البارد، والظل الظليل.. وفي الحياة الدنيا، تجد كُتّاباً وفلاسفة وشعراء ابتلينا بهم، (وبمن ينوب عن بعضهم)..!! فمنهم من يهتم بالنخبة، وآخر يهتم بأصغر ذرة على رمل، وثالثٌ يهتم بالتجريد، ومقابله من يلتفت إلى التشخيص.. و خامسٌ يهتم بلون جدار الغرفة، ويواجهه من يهتم بالرضاعة الطبيعية، وأثر التدخين على المرأة الحامل..!!

كل هذا مشروع، فزينة الله التي أخرج لعباده، هي لمن سبق الآخرين إليها، لكن أن يزعم زاعم أنه الحق وما سواه باطل، فهذا هو الفكر الأحادي، الذي يُناقض سنة الكون القائمة على التضاد، فالناس (لا يزالون مختلفين).. والامتزاج مع الطبقات (الأرضية) يُعطي الإنسان بعداً واقعياً، يحتاجه كل أولئك الذين يتشدّقون بمصالح الناس، واحتياجات البشر.. أولئك القوم من الأقلام المنتفخة بالوهم، والمتورمة بالمتاجرة بأحلام البسطاء.. تسأل (أحدهم) ما الغرض من الكتابة..؟! فيبادرك قائلاً: (أكتب من أجل الناس ولهم وعنهم)، والحقيقة التي يراها الناس أنه يكتب ليثقل عليهم.. يتكلّم عن أحلام البسطاء، وهو الذي لم يعرف البساطة يوماً، يتغنى بالخيام وسُكنى (الصّحراء)، وهو الربيب بين ناطحات السحاب، والسيارات الفارهة، وفضائيات شرق المتوسط..!! يا لهول المسافة بين واقعنا وكتاباتنا، إننا نموت مرتين: مرة بالزيف ومرة بالخيانة، ونعيش مرتين: مرة بالقلم ومرة بالألم، ونكتب مرتين: مرة بالأصالة وأخرى بالوكالة.. هل يستوعب مكاننا وزماننا أحلام الشعراء ودروشة الأدباء، وسلطوية الحُكماء، بعد أن أخذ منا الضّرب في الأرض ما تبقّى من قوة المناكب، وشدة المفاصل..؟! يقول الشعراء: لا مفر من الشعر، فهو كالأمطار الاستوائية، والأقمشة الوثيرة، والخبز اليومي الذي يحتاجه كل الناس، بكل اتجاهاتهم الثقافية، ويقول الأدباء: الأدب هو الحياة، ودور الكلمة باق ما دامت السماوات والأرض، والأديب سلطان الزمان، ونور المكان، يحيا بالورقة، ويموت بين الكتب.. ويقول الحكماء: الحكمة ضالة الإنسان، يبحث عنها، وهي معه، عبر سطور الوقت، وأرفف الذاكرة.. حسناً، لا يمدح السوق إلا من ربح فيه..!! يقول ابن الفارض قاصداً (الحقيقة):

وَعَلِمْتُ -حِينَ الْعِلْمُ لاَ يُجْدِي الْفَتَى-

أَنَّ الَّتِي ضَيَّعْتُهَا (كَانَتْ مَعِي)..!!

ولا تنس الفيلسوف الألماني (ليسنغ)، حين قال مُبالغاً: (إذا أعطاني الله ''الحقيقة'' في يدي اليمنى، وقدرة البحث عنها في يدي اليسرى، لاخترت ما في اليد اليسرى)..!!