الحمد لله الذي أنزل الناس منازلهم في الرعاية والاحترام ، وجعل حقوق الوالدين في أعلى مقام ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أدب أمته وأحسن تعليمها ، أحمد الله تعالى وأستغفره ، وأشهد أن لا اله الا الله جعل طاعة الوالدين سببا في حبه ورضاه ، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ، خير من حفظ الحق لأصحابه ورعاه .
أيها المسلم – والداك سبب وجودك وأصل حياتك ؛ يحفظانك برعايتهما ويتعهدانك بالتربية والتهذيب ، أمك حملتك في بطنها جنينا ، وبرغم آلام الحمل فرحة بك قبل وجودك ، ووضعتك وليدا ومهما ، تقاسى في وضعك فإنها تنسى عذابها برؤية وجهك ، وغذتك بلبنها رضيعا ، وحفظتك فطيما ، تسهر لمرضك متخوفة لا تنام ، مشفقة عليك من العلل والأسقام ، تفضلك على نفسها في العطية ، وتنسى نفسها في سبيلك ، وأبوك يجاهد الزمن ، ويقاوم المحن ، ويسعى في طلب الرزق لينفق عليك ، ويسد حاجتك ، يمضى ساعيا عاملا ، فاذا رجع إليك والاك بعطفه وحبه ، وحنانه وبره ، ولن تجد صلة قوية البنيان ، متينة الأساس كصلة الوالدين بولدهما ، لأنها صلة طبيعية من صنع الله ، تملأ قلوب الوالدين برغمهما لا باختيارهما ، مهما قست قلوبهما ، حنان إلهي من الأصل لفرعه ، ومن الوالد لولده ، حنين ملازم لا ينعدم وإن ضعف ، عطف أبوي لا يزول وإن قل ، قد يزول حب الزوج لبعلها لأقل هفوة ، فتجحد فضله وتنكر ، خيره وتنقلب عليه نارا وسعيرا ، قد يزول حب الصديق لصديقه لمجرد نميمة ، أو لوشاية فينقلب عدوا لدودا ، ويصبح على صاحبه حربا عوانا ، قد يزول حب الإبن لوالده إذا كان الوالد قاسيا مستبدا أو ثقيلا بخيلا ؛ أما حب الأبوين لولدهما فهو باق دائم مهما تنكر الولد وجحد : لذلك بدأنا الله أولا بتوحيد ربنا ، وثانيا بالإحسان لوالدينا ، وقرن ذلك بعبادته إظهارا لعظم الأمر ومكانته من الدين ، وبالغ في البر بهما ، وأمر بتخيير اللفظ الحسن في مخاطبتها ، قال تعالى ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) .
( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .فعليك لوالديك دين لا يمكنك سداده كله فسدد بعضه ، لهم عليك حقوق واجبة الأداء أمر بها الشرع وأقرها العقل ، أطع والديك واحترمهما وساعدهما بمالك إن احتاجا ، وتول خدمتهما إن ضعفا ، ولازمهما في المرض واجتهد في إرضائهما وأدخل السرور عليهما بحبك لهما ، وامتثالك لقولهما ، وسكوتك عند غضبهما عليك ، وشتمهما لك ، فمهما خدمتهما وأرضيتهما فلن تكافئهما بعمل أو تجزيهما بخدمة . قال عليه الصلاة والسلام : ( لن يجزى ولد والده حتى يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) .
أنظر إلى رسولنا الحكيم ، يفضل صحبة الوالدين على الجهاد في سبيل الله وعلى الهجرة إلى الله ، ماداما في احتياج لولدهما فقد جاءه رجل يبايعه على الهجرة والجهاد ، وابتغاء الاجر من الله ، فقال له : ( هل من والديك أحد حى ؟ قال : نعم ، قال : فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما ) .
أنظر إلى الدين الحنيف يأمر ببر الوالدين وإن كانا كافرين أو مشركين ولم يجعل من اختلاف العقيدة والدين ، سببا لهجرهما وقطيعتهما ، فلهم دينهم ولك دينك . ومخالفتهما لدينك لا تبيح لك الإساءة إليهما ، أو ترك الإحسان والبر بهما ، قال تعالى : ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ) ، وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت : قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت : قدمت على أمي وهي راغبة أفأصل أمي ؟ قال : نعم ، صلى أمك ) .
حتى بعد وفاة والديك لا ينقطع عملك لهما ، وعليك أن تبرهما بعد موتهما ، فلا يقتصر البر على حياتهما ، بل يستمر بعد الموت . فعن مالك بن ربيعة : قال ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل ، فقال : يا رسول الله ، هل بقى على من بر أبوى شيء أبرهما به بعد وفاتهما ؟ قال : نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنقاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ) .
ولكن هل نطيع آباءنا في كل شيء ، حتى في الكفر ، والإشراك بالله ، وارتكاب المعاصي ؟ هل نطيع آباءنا ونعصى ربنا وخالقنا ؟ كلا ؛ طاعة الله أولا ، فاذا وافقت أوامر الوالدين أمر الله أطعناهما في الله ، وإلا فالعصيان والمخالفة لهما في طاعة الله ؛ خالف آباءك في الكفر وترك الصلاة والعبادة واعصهما إذا أمراك بما نهى عنه دينك ، أو نهياك عما أمر به ربك ، فالله ندد بالكفار الذين قالوا : ( إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) ، وبين حد الطاعة بقوله تعالى : ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما ) وقوله ( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) وقوله : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) .
في العقائد والعبادات والشعائر أطع دينك ، وخالف الوالدين ، ولا تحتج بهذا فتحرمهم من مالك ، أو تسبهم ، وتلعنهم ، فهناك فرق بين مخالفتك لهم في كفرهم وبين احترامك لهم ، وحسن معاملتك ، يعنى أن احترام الوالدين واجب في كل الأحوال ، ولو كفرا ، أما طاعة الوالدين فواجبة في بعض الأحوال دون بعض ، مساعدتهم لازمة في كل وقت ، أما طاعتهما فليست واجبة إلا إذا وافقت الحق ، وكن كما كان إبراهيم عليه السلام مع أبيه ، دعاه للدين بأدب وأرشده بحكمة ولطف ، فهدده أبوه برجمه بالحجارة ، فوعده إبراهيم بطلب المغفرة له من الله ، ولما وجده مصرا على الكفر تبرأ منه بالنسبة للعقيدة ، ولكنه لم يعتد عليه ، تبرأمنه في الدين ولكنه ظل يخدمه ويرعاه في الدنيا ، ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأمنه ) .
وهكذا الدين العدل لا يجامل في الحق ولو مع أقرب الأقارب ، ولا يحابى في الدين ولو مع الوالد .
فعلى الآباء ألا يغتروا بمركزهم الذى منحه لهم الإسلام ، وألا يعتزوا بقوتهم وسلطتهم ، فلا يظلموا أبناءهم ، ولا يستبدوا بهم ، ولا يكونوا وحوشا في تأديبهم ، فشدة الإهانة تولد الضغينة ، وكثرة القسوة تبعث الكره والجفوة ، والحزم في تربية الولد واجب فكم من والد أفسد ولده بسوء تصرفه وتهوره في معاملته ، كم من أب ثقيل على قلوب أبنائه ، لغطرسته وحمقه ، أو بخله وشحه ، كم من ولد يتمنى موت والده ليرث ماله ، أو ليرتاح من فظاعته .
فالدين الذى جعل للوالد حقوقا جعل للأولاد حقوقا كذلك ، وصلوات الله على إمام الحكمة وزعيم الصدق والعدل ، حيث قال لما سأله رجل من أبر ؟ قال : ( بر والديك ، قال : ليس لى والدان ، قال : بر ولدك ، كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق )، وقال صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله والدا أعان ولده على بره ) أى لم يحمله على العقوق بسوء عمله .
وقال ايضا : ( ساووا بين أولادكم في العطية ) ، وقال أيضا : ( من حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه ويحسن أسمه ) .
هذا هو حد الطاعة وحد العصيان مع الوالدين ، ولقد عشنا ورأينا آباء يعلمون أولادهم على الفساد ، ويأخذونهم إلى الملاهي والمراقص ، ويشربون الخمر امامهم ، ويلعبون الميسر ، عشنا –وقدر الله أن نعيش – في زمن فيه الأم متهتكة ليس لديها حشمة أمام بناتها الأبكار ، فيأخذون عنها الخزى والخلاعة والعار ، ولله الأمر ، ولا حول ولا قوة إلا بك يا رب العالمين ، قال صلى الله عليه وسلم : من أصبح مرضيا لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة ، ومن أمسى فمثل ذلك ، وإن ظلما وإن ظلما وإن ظلما ، ومن أصبح مسخطا لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى النار ، ومن أمسى فمثل ذلك ، وإن ظلما وإن ظلما وإن ظلما ) ، ورأى الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ولده الحسن فقال : إن لى عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم ، فقال . إن من لا يرحم لا يرحم ) .


يا زارع الشوك لا تشكو من مرارته
من يزرع الشوك لا يجني عنبا
من يزرع الشوك يدمي الشوك ساعده
ويحصد المر والآلام والتعبا