العنوسة.. هذا الشبح المرعب الذي يقض مضاجع الفتيات كلما تقدم بهن العمر.
إنها كلمة بسيطة لكن لها وقع الصاعقة على من فاتها قطار الزواج حسب المعايير والتقاليد والعادات التي تلزم بشكل متفاوت كل مجتمع من مجتمعات العالم، وقد يكون لها الأثر الأكثر حدة في مجتمعاتنا الشرقية المحافظة التي لا تجد طريقاً لتفريغ شحنات الشباب والشابات العاطفية، والحاجات الجسدية والنفسية بالطرق غير المشروعة كما في المجتمعات الغربية والمنحلة، وليس لها من سبيل إلى ذلك إلا بالزواج الشرعي، وهذا طبعاً إذا أخذنا الأمور على فطرتها وحقيقتها وافتراضها.
ولو علمنا بأن عدد العانسات في المملكة العربية السعودية بلغ حسب إحصائيات عام 1999م مليون ونصف المليون امرأة من أصل أربعة ملايين فتاة في المملكة، ناهيك عن عدد الشباب لأدركنا خطورة الأمر على المجتمع.
فهل نستطيع أن نحيط ببعض الأسباب التي تؤدي إلى عنوسة كثير من فتياتنا؟ وهل يمكن أن نجد من خلال عرض الأسباب وسائل للتنوير والإرشاد والعلاج؟
لا شك بأن الأسباب كثيرة جداً، وتخضع في كثير من الأحيان إلى الوضع الاجتماعي للشباب وعدم تمكنهم من تهيئة بيت الزوجية في سن مبكرة. وهي صعوبات اقتصادية بسبب الغلاء النسبي للمعيشة وتدني الأجور لفئات من الشباب خاصة أولئك الذين لا يحظون بمؤهل علمي، الأمر الذي أدى بهم إلى قلة فرص العمل. يقول الفيلسوف الألماني عمنؤيل كانت: (يوم أردت الزواج لم يكن باستطاعتي إعالة الزوجة، واليوم بعد أن استطعت ذلك صرت عاجزاً عن الزواج).
يرى الباحثون الاجتماعيون أن مسؤولية هذه القضية تقع على عاتق الدولة والمؤسسات العامة، وأحياناً تكون الرغبة في مواصلة تعلم الشاب إلى مراحل متقدمة مانعاً من الارتباط بزوجة، وأحياناً أخرى طموح بعض الشباب للزواج من أجنبيات بادعاء أنهن يقبلن على الزواج بأقل طلبات وبأية شروط. ولكن بعد كثير من الإحصائيات تبين أن أكثر هذه الزيجات من الأجنبيات تنتهي بالفشل.
وغالباً ما تكون الأسباب تتعلق بالأسرة نفسها وطلباتها وشروطها، وفي طريقة البحث عن زوجة تليق بمركز ومقام والمستوى المادي والحياتي للأسرة.
وبما أننا كمجتمع شرقي ما زلنا نحمل رواسب العادات والتقاليد والأخلاق، فالشاب يرفض قطعياً الزواج من فتاة تعرف عليها مثلاً، أو ممن لها تجربة علاقة ما مع شاب ما ولو كانت علاقة سطحية. والغريب أنه لا يمانع في إقامة علاقة ما مع أي فتاة بل يسعى إليها بكل الطرق ولكنه متى أقبل على الزواج تكون تلك الفتاة هي الأبعد عن مجال اختياره.
وهناك طبعاً أسباب صحّية وسلوكية وأخلاقية تقف حائلاً دون رغبة الشاب بالزواج أصلاً.
من المعروف أن السن المثالية لزواج الشاب في مجتمعنا تتراوح بين العشرين والثلاثين من عمره، وبالنسبة للفتاة فقد تبدأ أبكر من ذلك بكثير وتتباطأ بعد بلوغها سن الرابعة والعشرين، وتصبح في عداد العوانس متى بلغت الخامسة والثلاثين أو الأربعين من عمرها.
ورغم أن هناك تحفظاً على هذا التعريف إلا أن المقام لا يسمح بأن ندخل في ذلك في هذه العجالة، ويبقى أن هذا ما يتعارف عليه مجتمعنا بتقاليده وعاداته رغم أننا مضينا أشواطاً على طرقات التعليم والتحضر والتحديث وكان يجب أن يستتبع ذلك تطور أيضاً في منظورنا الاجتماعي.
متى تجاوز الشاب هذه السن يصبح سقف طلباته في شريكة عمره أكثر تعقيداً وطلباً للمثالية، وتزداد شروطه إلى درجة التعجيز، بينما يصاب بعضهم بالإحباط وفي التخلي تماماً عن فكرة الزواج، وذلك أيضاً على درجات إرضاء ذاته تحت مسميات كثيرة ومتعددة منها عدم تحمل المسؤولية والرغبة في عدم الإنجاب إلى آخر ذلك.
أما بالنسبة للفتيات فلهن أيضاً بعض يد في الأسباب، فمنهن من تضع شروطاً قاسية على طالب الزواج سواء مادياً أو وصفياً وهن في مقتبل العمر، وتمضي السفينة ولا تعبأ بهن، وكلما تقدم بهن العمر يهبط سقف الطلبات إلى حدود غير معقولة لترضى إحداهن مثلاً بالزواج ممن يكبرها بكثير أو من رجل متزوج وعنده أولاد كثر أو تبقى دون زواج وغير ذلك.
إن المجتمع السعودي بشكل خاص والعربي بشكل عام يعاني من ارتفاع مطرد بنسب العانسات، وهذا لا يبرر أن ننظر إلى العانس وكأنها مرفوضة من مجتمعها لأسباب تتعلق بها، سواء في الشكل أو المضمون، فهذا المرض - إذا صحت هذه التسمية - مسؤولية الجميع، ويتطلب من الدولة الرشيدة ومن المؤسسات الخاصة والعامة ومن الجمعيات ذات العلاقة بشؤون الأسرة والشباب، ومن أرباب الأسر ومن الشباب والشابات العمل الجدي المخلص في البحث عن الأسباب وعلاجها كي نحقق مجتمعاً متوازناً.. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.