بسم الله الرحمن الرحيم
(عفا الله عما سلف) مقولة تطرح دائما من أجل الصلح بين خصمين، على أساس أن ينسى كل خصم ما بداخله من غل أو مآخذ على خصمه، فيطويان صفحة تعيسة ويفتحان صفحة جديدة.. واعرف صديقين جمعت بينهما المودة في بداية حياتهما، ثم فرقتهما الخصومة وطمع الدنيا في وسطها، وقاطع كل منهما الآخر وهما على مشارف النهاية، واستمرت تلك القطيعة ما يقارب من ثلاثين سنة، وكلما حاولنا التوفيق بينهما، ركب كل واحد رأسه وازداد نفوراً وعناداً.
وقدر لواحد منهما أن يصاب بمرض خطير ادخل من جرائه المستشفى لأن وضعه كان حرجا، وعندما سمع خصمه بذلك، فوجئنا بحضوره للمستشفى، وكان ذلك الحضور من تلقاء نفسه بدون أي محاولة أو رجاء من أحد.
واذكر كيف دخل غرفة ذلك (الخصم) وكنت ضمن مجموعة جلسوا حول سريره، وكان دخوله مفاجئا حقا للمريض ولنا جميعا، ووقف أمام السرير يحدق صامتا في عيون خصمه، وخصمه يبادله التحديق غير مصدق.
تناول يده ومسح على رأسه قائلاً: إن شاء الله ما تشوف إلا العافية، تبسم الآخر في وجهه وشكره على مجيئه، وقال له بعد أن تلاشت ابتسامته: لقد أخبرني الأطباء أن حالتي سيئة، فإذا قدر الله وتوفيت فاعلم أنني سامحتك. وعندما تفوه بتلك الكلمات فرحنا جميعا وقال بعضنا بصوت واحد بما فيهم الخصم الزائر: الله يعطيك طول العمر وعفا الله عما سلف، ونحن (عيال اليوم).
غير أننا انصدمنا عندما شاهدنا المريض يتحرك في فراشه حركة عصبية، بعد أن تقادح من عينه الشرر، وقال بصوت صارم: لا أرجوكم ما كملت كلامي، أنا أقول: إذا مت (اوكي) مسامحه، أما إذا تعافيت فستبقى الأمور بيننا كما كانت.
ظننا انه يمزح، فأخذنا نتضاحك، غير انه اخذ يقاطع ضحكاتنا برفع صوته مؤكدا ذلك، وانه يعني ما يقول، إلى درجة انه طلب من خصمه الزائر أن يخرج، وفعلا خرج المسكين وأوصلته إلى المصعد محاولا إيجاد العذر للمريض بسبب الأدوية المسكنة، وانه لا يعي ما يقول، وعندما يشفى ان شاء الله فلن ينسى موقفك ولا بد أن يقدره.
وبعد عدّة شهور لم يمت المريض، وإنما شفي بقدرة قادر واخذ يرمح كالحصان، وحاولنا إعادة المياه إلى مجاريها مع صديقه القديم غير أن رفضه ازداد شدة، وخاطبنا كأنه يعاتبنا: الم اقل لكم إنني إذا مت سوف أسامحه، أما إذا شفيت فستبقى الأمور بيننا كما كانت؟!، وها انذا شفيت والحمد لله، وانتم تعرفون أنني لا أحيد عن قرار اتخذته، لأنني صاحب مبدأ. تركته وأنا أقول بيني وبين نفسي: يا ليتك (رحت وريّحت) ـ على أية حال فإنني لا أخشى من دعوتي هذه، لأن المريض الحصان, لا يقرأ الصحف.
( للكاتب .. مشعل السديري )