............ تفكير بالمقلوب............
[align=center]حين تُذكر الفلسفة الحديثة فلابد أن يًشار إلى أبيها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) صاحب المقولة I think therefore I am" " أنا أفكّر، إذن أنا أكون" والتي اشتُهِرتْ بين الفلاسفة باسم " Cogito" " نسبة إلى الكلمة الرئيسة في الترجمة اللاتينية لهذه العبارة.
وبالرغْم من أن الكوجيتو لم تسلم من انتقادات بعض الفلاسفة المتأخرين كالفيلسوف الألماني هانس ريكينباخ (1891-1953) إلا أن هذا النقد لم يستطِع النيل من قدْرِ صاحب العبارة، ديكارت. ديكارت هو الرجل الذي استطاع نقل الحقل الفلسفي من Metaphysics أو الماورائيات إلى حقل Epistemology الإبستمولوجيا أو ما يمكن أن يُعرّب بـ علم الوصول إلى المعرفة. جاء ديكارت ليقول لفلاسفة العصر القروسطي، ربما ليس مجديا أن نختصمَ حول حقائق أو معارف غيبية ونحنُ لم نتثبّت بعدُ الوسائل التي من خلالها نستطيعُ الوصول إلى تلكَ المعارف. لا بدّ من التحقق من جدارة تلك الوسيلة وأحقيتها للوصول بنا إلى أي حقيقةٍ نريد، ومن الخطأ أن نقفز للنتائج ونحكم عليها بناء على مقدمات مشكوكٍ بها أو غير يقينية، وبهذا التوجّه يـُعدّ النقاد ديكارت الأستاذ الأول لمدرسة العقل ( (Rationalism والتي تؤكّد على حضور العقل جنبا إلى جنب مع الحواس البشرية من أجل الوصول إلى المعرفة.
ولئن كانت الثورة الفرنسية، التي حدثت بين عامي (1789-1799)، نتيجة للصدام الطبقي بين البرجوازيين الجدد والارستقراطيين القدماء العائشين على فُتاتِ امتيازات العصور الوسطى، قد تأخرت قرابة قرنٍ ونصف من وفاة رينيه ديكارت، إلا أن سبق التغيير والحرث الفكري والفلسفي الذي جاء بهِ ديكارتْ يوحي بأن الثورة العلمية والتغييرات الاقتصادية والسياسية البناءة لا تَحدُثُ إلا بعد تشبع العقل الجمعي بقناعات فلسفية تمنحُ العقل ما يستحقه من اعتبار وتقدير.
حين ينتقل المشهد إلى العالم العربي، تبدو المساحات شاسعة للأيديولوجيا والأبواب واسعة مشرعة للميثيولوجيات التي تعبثُ بالعقل العربي أنى شاءت لتشكّل بنيته التفكيرية وفلسفتَهُ الحياتية بعيدا عن العقل ومناظيره الفاحصة الصارمة. وبمجرد وضعِ هذه الأيديلوجيات والميثيولوجيات التي عشعشت في عقلنا العربي تحت منظار ديكارت العقلاني، تبدو ليست غير أفكار وصلنا إليها عن طريق الإخبار ثم صمناها بـ " الحقيقة" المطلقة، أفكارٌ صيرناها نتائج قفزنا إليها وصدقناها دون المرور على مقدمات منطقية ومساءلات حقيقية.
هذا يعني أن العقل العربي يعاني بشكل عام من معضلة إبستمولوجية عميقة. إنها معضلة الانقلاب التام في عملية الوصول إلى المعرفة، والانطلاق من حقائق ناجزة إلى وسائل مغتصبة لمناصرةِ تلكَ الحقائق. بعبارة أخرى، إننا ننطلقُ من نتائجَ إلى مقدمات.
هذا الانقلاب الإبستمولوجي جعلنا ( كما يذكر المفكّر البليهي) ننظر إلى ماضٍ كان وحدث كهدف وغاية للوصول بينما تستشرف الأمم المتقدمة مستقبلا لم يعرفُ الحاضر شيئا منهُ بعد، إذ أن الماضي نتيجة ناجزة والمستقبل يحتاجُ إلى وسيلة فعالة من أجل الوصول إليه. هذا الانقلاب جعل أهم أهداف التعليمَ في العالمِ العربي الحفظ لا الفم إذ أن الحفظ هو الرف الذي تخزّن فيه النتيجة بعكس الفهم الذي يبحث أولا عن حيثيات ومقدمات تلك النتيجة. هذا الانقلاب جعل العرب يسيرون شؤونهم وقضاياهم بـ " بالتمني والبركة" لا " التفكير والحركة"، إذ ما الحاجةُ لأن تتعب ذاتك في البحث عن وسائل صارمة توصلكَ إلى النتيجة وهي محرزة لديك مبثوثة بين عينيك. هذا الانقلاب جعلَ فتيانا بعُمْرِ الزهور يدمّرون أبراجا اقتصادية ويفجّرون وزارات حكومية وسفارات دولية ومبانٍ مدنية ويسفكون دماء بشرية، إذ أن النتيجة لديهم محتومة محسومة وليست هذه الحياة إلا وسيلةُ حقيرةٌ وأداة تافهة غيرُ نبيلة.
وحين تأتي الخطاب القرآني الكريم مقدّرا للعقل حاضا على احترامه بأساليب بلاغية متعددة، من أمر (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) واستفهام ( أولم يتفكروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء) والتماس،( أفلا تعلقلون) ( أفلا تتفكرون)، فإن التفسير المنطقي لهذه الآيات الكريمة يعني أن يكون سلوكُنا الفكري منطقيا وأن تكون طرائقُ وصولنا إلى المعرفة هي تلك التي يباركُها العقلُ ويقرها.
لا يزالُ العقلَ العربي ناكصا على عقبيه لم يتدبر نصوص تراثه المقدّس ولم يستوعبْ ما قالهُ عظماء الفلاسفه، وهذا هذا يعني أن العقل العربي بشكل عام ُ إلى مراجعة فكرية فلسفية عميقة، إذ أنه ببساطة (يفكر بالمقلوب).[/align]
مواقع النشر (المفضلة)