بناء المساجد
تعريف المسجد لغة كما قال الإمام الزركشي في كتابه «إعلام المساجد..» اسم لمكان السجود، وأما شرعاً فكل موضع من الأرض، لقوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجداً»، وهذا من خصائص هذه الأمة، قال القاضي عياض: لأن من كان قبلنا، كانوا لا يصلون إلا في موضع يتيقّنون طهارته، ونحن خُصِّصنا بجواز الصلاة في جميع الأرض، إلا ما تيقنا نجاسته.
وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي.. وذكر منهن: وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل..» قال الملهب في شرح البخاري: المخصوص به صلى الله عليه وسلم، جعل الأرض طهوراً، أما كونها مسجداً، فلم يأت في أثر أنها منعت من غيره.. فكأنه قال «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وجُعلت لغيري مسجدا، ولم تجعل له طهوراً» قال الزركشي: ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه؛ اشتق اسم المكان منه فقيل: مسجد، ولم يقولوا: مركع.. ثم إن العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس «اهـ» وكون الأرض طهوراً إشارة إلى التيمم بالتراب بدلاً من الوضوء بالماء عند افتقاده، فتكون الطهارة حينئذ حكميّة تجوز بها الصلاة ومس المصحف وغيرهما، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه «إن الصعيد طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير».
ولقد أصبح المسجد من شعائر الإسلام الظاهرة التي لا يستغني عنها المسلمون حيثما وجدوا، لجمع كلمتهم، والتعارف فيما بينهم، والحفاظ على شخصيتهم وخاصة عند كونهم أقلية، أو في حالة اغتراب.. وإقامة صلاة الجماعة والجمعة والعيدين، بل وفي المناسبات الاجتماعية المشروعة، والأنشطة الثقافية والدعوية والتعليمية المختلفة كالمحاضرات وتعلم القرآن وحفظه وتلقي علوم الدين واللغة.. وما إلى ذلك مما يتفق مع رسالة المسجد في المجتمع.. كمركز إشعاع شامل يربط المسلمين بدينهم، ويوثق صلتهم بربهم، ويؤلف بين قلوبهم.. محبة» وصلة وبراً وتعاوناً على الخير.. قال تعالى: «في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار..» «النور: 37». والمراد بالبيوت عند أكثر المفسرين هي المساجد، وقوله تعالى: «أذن الله أن تُرفع..» أي أن تبنى، قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: «هي المساجد أمر الله ان تبنى» وفي تفسير آخر نقله الإمام الرازي عن الزجاج: «ترفع أي تعظم وتطهر عن الأنجاس واللغو من الأقوال..» وفي تفسير ثالث: المراد مجمع الأمرين.. أي أنها بيوت تبنى لله تعالى، تقام فيها الصلاة، ويذكر فيها اسم الله بالتسبيح والدعاء وتلاوة القرآن والدعوة إلى الإسلام وتعليم الناس أمور دينهم، وتُنَنَزَّه عن اللغو والرفث والنجاسات.. وكل نشاط يتنافى مع هذه الصبغة الإلهية التي أضفاها الله على بيوته الموقوفة له ليكرم فيها زائريه ممن يؤمونها تعبداً وتقديساً له وابتغاء وجهه ومرضاته.
ومن هنا جاءت السنة النبوية حافلة بالترغيب في بناء المساجد وبيان ثوابها وفضلها العظيم، ففي الصحيحين عن عثمان رضي الله عنه انه قال: «.. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتاً في الجنة. وفي رواية: بنى الله له مثله في الجنة». والمراد بقوله: يبتغي به وجه الله، أي يريد به ثوابه مخلصاً له، لا يتطلع إلى شهرة، ولا يسعى إلى الظهور ومراءاة الناس والثناء عليه.. والمثلية في قوله «بنى الله له مثله» لا تعني الحجم أو الهيئة أو الشكل.. وإنما فضل الله وثوابه أعظم من ذلك، إذ إنه سبحانه يعطي على الحسنة عشرة أمثالها ويزيد.. والله يضاعف لمن يشاء أضعافاً كثيرة، فقد أخرج الإمام أحمد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة»، ولما كان بناء المساجد عند الحاجة إليها، خاصة في البلاد الفقيرة أو التي تتعرض لحملات التنصير وبناء الكنائس.. ويكون المسجد فيها والمدرسة والمستوصف وكفالة الأيتام والتلاميذ والمعلمين والدعاة.. من وسائل الوقاية للمسلمين من الفتنة وحمايتهم من الكفر.. فإن الإنفاق في هذه الوجوه يكون في سبيل الله، ومن هنا أجاز بعض الفقهاء إقامة مثل هذه المشروعات بأموال الزكاة إلى جانب الإنفاق منها على الفقراء والمساكين وغير ذلك من المصارف التي نص عليها القرآن الكريم بقوله تعالى: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين.. الآية» «التوبة: 60».
ومن الأحاديث الأخرى التي تحض على بناء المساجد ما رواه البزار والطبراني في الصغير وابن حبان في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى لله مسجداً قَدْرَ مَفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة» أي قدر عش القطاة ومسكنها.
وعن أنس رضي الله عنه فيما أخرجه الترمذي «من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً، بنى الله له بيتاً في الجنة» وعن بشر بن حيان قال: جاء واثلة بن الاسقع ونحن نبني مسجداً قال: فوقف علينا فسلم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجداً يُصَلَّى فيه، بنى الله عز وجل له في الجنة أفضل منه» - رواه أحمد والطبراني - وعن أبي هريرة رضي الله عنه «من بنى بيتاً يُعبد الله فيه من مال حلال، بنى الله له بيتاً في الجنة من دُرّ وياقوت» رواه الطبراني في الأوسط، والبزار بدون قوله «من درِّ وياقوت».
ولا شك ان بناء المساجد هو من قبيل الصدقات الجارية التي يجري للمرء ثوابها بعد موته، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم «سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره: مَنْ علّم علماً، أوكرّ نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته» رواه البزار وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون».
مواقع النشر (المفضلة)