المسلم يلتزم آداب السير ويمشي في وقار
الطرق، والشوارع، والحارات، والأزقة.. هي معابر القرى أو المدن، وشرايينها وشعيراتها الدموية الدافقة بالحركة والحيوية والنشاط، ومواد الاعاشة والاغاثة والاحياء.
وللطرق وروافدها نظم، ومسارات، وآداب، وللمسؤولين عن تخطيطها وتجميلها وصيانتها، ابتكارات وتقديرات ونظرات، كما ان للسالكين والعابرين بها أساليب ومظاهر تفصح عن مدى تحضرهم او تمدنهم، من خلال احترامهم للشوارع والطرق، وآداب السير والتنقل والعبور كما يرى الدكتور فؤاد شاكر مشاة او ركبانا، وهذا الاحترام هو احترام لأنفسهم وسلامتهم أولا وللمجتمع الذي ينتسبون اليه او يعيشون فيه.
الذوق الايماني
يمشي المسلم في طرقات المدينة أو القرية مثل غيره من الناس، فإن هو التزم بآداب السير والعبور راجلا أو راكبا كان انسانا متحضراً كسائر المتحضرين المهذبين، لكن هذا في منطق “الايمان” لا يكفي! وقد نعجب ان القرآن الحكيم لم يغفل هذه الجزئية، فيشير اليها في عدة آيات مفصلات تضيف الى الآداب والسلوك بعدا وضاء مباركا، وقيمة انسانية اجتماعية فوق ما تعارف عليه التقدميون والمستقبليون، وكلها تندرج تحت مظلة “الذوق الايماني” الحي النضير.
وعلى سبيل المثال فإن على المسلم ان يمشي في وقار واستقامة وتوسط، فلا يسرع ويهرول بغير ضرورة فيبدو كالغر الارعن، ولا يتباطأ ويتثاقل مزهوا بنفسه وقدره، ففي سورة الاسراء: “ولا تمش في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا”. وفي سورة لقمان: “ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الارض مرحا ان الله لا يحب كل مختال فخور”.
ولا تكتفي الآيات القرآنية بالتحذير والنهي، وانما تضع الأنموذج الاسمى لسلوك المؤمنين الصادقين الصالحين وتسميهم “عباد الرحمن” فتنسب عبوديتهم الى الله الرحمن، وما أجله وأعظمه من انتساب فياض بالرحمات والبركات، على طول الطريق، وفي مسارات الحياة، وبعد الممات.
“وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا”، أي يمشون في تواضع وسكينة ووقار. تضيف الآية الكريمة: “وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما”.
خفض الصوت
وليس هذا وحسب، بل أيضا: “واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير”.
وهنا نتوقف قليلا مع الأمر الإلهي: “واقصد في مشيك” الذي يعني التوسط والاعتدال في المشي خلال طرقات وشوارع المدن.
ان المبدأ العام الذي يطبع المؤمن بطابع الأدب القرآني، ويكسبه ذوقا ايمانيا رفيع المستوى قد ورد في سورة الاسراء: “ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا”. فهل رفع الصوت يسأل عنه المرأ ويحاسب عليه؟ نعم، ان كان بلا حاجة أو ضرورة، كاستغاثة مثلا أو تحذير من خطر داهم، أو في خطبة جماهيرية كخطبة الجمعة بالقدر الذي يسمع الحاضرين ولا يثير سخط من سواهم. لأن الصوت بالكلام نعمة “وقد لا يدرك قيمتها الا الذين يصابون باحتباس الصوت فلا يقدرون على الكلام”، والاسراف في استخدام النعمة أمر مرذول مرفوض. ومن صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه: “كان خافت الصوت طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة” وكان أبو بكر رضي الله عنه “يدني اذنه من فم النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع منه”.
ولقد علمنا ان صلاة النهار الظهر والعصر بلا صوت مسموع “في تلاوة الفاتحة وشيء من القرآن في الركعتين الاوليين” على العكس في صلاة الليل المغرب والعشاء والصبح فهي جهرية لماذا؟ لأن ايمان المؤمن مدعاة “للتعادلية” وحفظ التوازن في هذه الحياة: فإذا كان النهار يتسم بالصخب والضجيج والضوضاء عادة، يكون سلوك المؤمن فيه متسما بالسكون والوداعة والهدوء، واذا كان الليل “سكنا” كما قال الخالق جل وعلا، فلا جناح على المؤمن ان يرفع صوته قليلا بالتلاوة، والله أعلم، فالذي يصخب بالليل “بالكلام أو الصراخ أو بالاجهزة الصوتية: بالمذياع ومكبرات الصوت والتلفزيون والستريو، أو بأبواق السيارات” ينقصه ذلك الذوق الايماني، كما انه يسيء، الى غيره، وقد يؤذي جاره ومن حوله وهذه معصية، ان لم تكن عصيانا، لأمر الله، وخروجا على الأدب القرآني ومخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم: في سلوكه، وفي وصاياه بحقوق الجار وحقوق الناس واحترام مشاعرهم وحرياتهم الوقورة المنضبطة، وهذا معروف مشهور متداول في الكتب والخطب والمواعظ، وتكفي الاشارة هنا الى تشبيه القرآن الكريم صوت الانسان الصاخب الصارخ المضجر بصوت “الحمير” المتناهي في الرذالة.
حق الطريق
ويرتبط بآداب الطريق ذوق ايماني آخر، يتضح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه البخاري وابو داود عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه: “إياكم والجلوس في الطرقات” قالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا فيها بد.. قال: “فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه”. فقالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: “غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
الأصل إذا هو المنع، أوالنهي عن الجلوس في الشوارع والطرق. “إياكم والجلوس..” فلما جاء الاستثناء، حمل معه “أوامر مشددة” كما نقول اليوم باتباع آداب عامة يجمعها ذوق ايماني رفيع منيع.
مواقع النشر (المفضلة)