أرحل مع نفسي ، في كتاب هذه الحياة ، أقلب صفحات كياني ، فأجدني في الأخير هناك في غربتي ، هكذا كنت في غربة الامس ، في ليل غرفتي ، حيث حللت ضيفا على غربتي ، تحت مضلة وحدتي ، كانت الكآبة تحاصرني ، والسحابة بهمومها تمطر علي ، وكان لهيب الحرمان يحرقني ، وصدى صمت منزلنا الكبير يرعبني ، لا أسمع إلاّ نغمات الرياح عبر نافذتي ، وترنيمات هافتة من صوت قطرات المطر ، حاولت النوم فلم أستطع .. لأن جيوش غربتي قد حاصرتني من جميع الجهات ، فقمت من فراشي ، عل وعسى أن أهرب من غربتي ، فأحاول أن أصطاد النعاس من بين أحواء وحدتي .. ولكن هيهات .. فالغربة تقتله .. والوحدة تأسره .. فكيف يأتي إلى لورانس .
هكذا قمت لأهرب من قصور أحلامي ، وبينما أنا أحاول أن أتحدث مع الغربة .. وأتدارك مع وحدتي بعض الأفكار ، إذا بسيدة مؤلمة تزورني ، وكأني أراها تقترب مني شيئا فشيئا .. لم أعرف ساعتها .. هل اقتربت تلك المؤلمة من لورانس ! أم أنها اقتربت إلى مخيلة لورانس ! أهو حلم أم واقع ! واقتربت مني أكثر وأكثر .. أراها الآن .. وأين في عاصمة آلامي ، وعاصفة جراحي .. في سجني الصغير ، هذه الغرفة الكبيرة ، وفعلا اقتربت مني وهي تلبس عباءة فاخرة ، فقالت : مرحبا بك .. يا إحساس ألامي .. ويا عازف جراحي .. فقلت في دهشة من نفسي .. وفي حيرة من أمري .. من أنتي .. هل أنتي سيدة الألم ! أم أنتي السيدة المؤلمة ! من أنتي .. ، فالتفتت إلى مكتبي ونظرت إلى جهازي .. وأخذت القلم .. وإذا بها تنظر إليه .. ثم تركت القلم على المكتب .. وأخذت تنظر إلي .. بنظرات ربما كانت يائسة .. أو بائسة .. لا أعلم ما حقيقة تلك النظرات ..
وإذا بها صامته .. فقلت في نفسي : هل سيغزوها الصمت ، لتبحر في نفسي في عالم الألغاز ، وإذا بي أكرر سؤالي عليها مرة أخرى .. من أنتي أيتها السيدة ! وإذا بها تنظر إلي وهي صامته ، قلت في نفسي : كيف أقتل صمتها ! وأغزوا فكرها ! ولكن تذكرت في لحظات أن الصمت ما هو إلا علامة من علامات الرضا ، فغيرت صيغة السؤال لأقول لها : كيف الألم معك يا سيدتي : فحاولت الوقوف .. ولكنها تتألم في وقوفها .. فقمت إليها وساعدتها في وقوفها ، فقالت أتعرف من أنا ! فقلت لا .. أنا لا أعرفك ، فقالت : أنا الآلام يا لورانس .. فدهشت منها .. هل من المعقول أن أرى الآلام أمامي .. وأين في غرفتي .. ومتى .. في هذا الوقت المتأخر .. وجاءتني فكرة .. وقلت في نفسي .. هل أقتلها .. لكي أريح البشر من آلامهم ! أم أستقبلها وكأني قد أكرمت آلام البشر .. تركتها قليلا .. لأسرح في التفكير مع نفسي .. فنظرت إليها .. وإذا بها مسكينة هزيلة ، حائرة متوجعة ، فرق لها قلبي الطيب ، فجئت إليها .. واستقبلتها ، لأني قد إخترت أن تكون ضيفة على لورانس ، أغلى من أن تكون جنازة يحملها لورانس ليرميها في سلة الأيام .. بلا تزوير ولا إتهام . قمت إليها ووقفت أمامها ، فقالت احمل عباءتي عني ، وفعلا مررت بيدي لأحمل عباءتها ، وإذا بي أسقط أنا والعباءة على الأرض ، وهي تنظر إلي ، بنظرات الهزيمة المؤلمة ، واليأس القاهر ، فقالت : احمل العباءة يا لورانس ، وبعد جهد وعناء حملتها ، إلى أن وضعتها على سرير نومي ، وحينما وضعتها على السرير إذا بقواعد السرير تهتز بعض الشيئ ، فتعجبت من أمر هذ العباءة ، وتعجبت أكثر كيف لهذه المرأة أن تحمل مثل هذه العباءة ، فقلت لها : هذ العباءة فيها نوع من الغرابة ، فقالت باختصار : يا لورانس .. إن الذي احمله هو الآلام .. نعم إنها آلامي وأخفيها عن البشر خلف هذه العباءة ، ولكني أترجمها بعيوني ، فيهم البشر معاناتي .. ولكنك يا لورانس ترجمتها بأناملك ، لتكتب بطاقتي الشخصية على مسار هذا الزمن ، وميدان هذا الدهر ، فقلت لها : هل تقرأين ما اكتبه .. فقالت : نعم .. أقرأه مرة ومرتين .. وكم أتعذب لأجلك .. وكم أتعب لآلام وحدتك ، وليتني أستطيع أن أقتل غربتك ، لأريحك من عذابها ، ولكن كيف لي أن أقتل ألما يملكني ولا أملكه ! بعد ذلك صمت هذا الألم أمامي .. وذرفت من عينيها دمعات تطفئ لهيب قهرها ، والذي لازمها طوال عمرها ،
أي آلام هذه التي تتحملها تلك المرأة الرائعة ، نعم إنها رائعة وجودها لتحملها لهذه الآلام التي قهرت العباءة ، وحطمت قوتي ، وأسقطتني أنا والعباءة على الأرض ، لتتناثر الآلام من هنا وهناك في باحة غرفتي ،
ولكن من لهذه المرأة بعد الله ..
هل نتركها هكذا تسافر مع آلامها من محطات الدموع إلى موانئ اليأس ، ومن قرى الأحزان ، إلى مدائن الهموم ،
ولماذا اختارت الآلام هذه المرأة من بين الزحام !
ألانها يتيمة منذ صغرها ! أم أنها فتحت بوابة الأحزان منذ طفولتها !
هل كانت تعشق الدموع ! وتضيء لذكراها الشموع !
أم أنها تتوق لذكرياتها بالرجوع ! هل تخاف من المستقبل لتعيش قتيلة ذكريات ماضيها !
هل هي يائسة من هذا الحاضر لتختبئ عن محبيها !
أسئلة كثيرة طرحتها على سيدة الألم في ذاك الوقت .. ولكن الإجابة هي الدموع والصمت .. بحزن ميت ، وابتسامة تحتضر ، وكآبة لا زالت في طريق ولادتها ..
في حقيقة الأمر رحمتها رحمة شديدة ، وكأني سأفور غضبا على تلك الآلام ، نعم أريد تحطيم كل تلك الآلام لأجل تلك المرأة الغالية على قلبي ، نعم أصبحت غالية لأنها صارحتني بألمها ، وزارتني لتشرفني بحضورها ، ولكني مع كل تلك الثقة .. خيبت ظنها في لورانس ، فلم أستطع أن أقتل ألمها .. لأني لو حاولت أن أقتل ألامها .. ستموت هي بقتلي لآلامها ، فآلامها قد اختلطت مع دمائها ، فلا تستطيع أن تتكلم إلا بالدموع ، ولا تعرف النوم إلا بعد أن تمر عليها سحابة هموم تمطر عليها ، ولا تستطيع أن تبتسم إلا بابتسامة مؤقتة سرعان ما تزول ..
سيدة الألم .. أو السيدة المؤلمة ..
أعلم أنكي ربما خضتي حرب النجوم في عالم الآلام ، ولكنك رفضت الاستسلام لخصوم السعادة ، ولكنك أوصيتي دموعك بألا ترضى إلا برايات الحزن ، وسماء الهموم ، وروعة الدموع ، فأنتي يا سيدتي لم ولن تقتنعي بالفرحة أبدا ، لأنها لم ترضي شموخ أحزانك ، ولم تسعى لإرضاء كبرياء ألامك ، والويل كل الويل لكل فرحة أو سعادة تريد الإنتقاض من ألمك ، أولانتقام من حزنك ، فأنتي دائما وأبدا متوقدة القلب ، فتية العزيمة، لا تكلين ولا تملين ، ومع ذلك تتعبين حينما تبلغين الصدارة في درجات الحزن ، والعلياء في سماء الألام .
سيدة الألم .. أميرة الألم .. ما ذا تريدين من لورانس .. فأنا لن أرفض لكي طلبا فأنتي اليوم في ضيافة غربته ..
فقالت : أريدك ألا تكتب عن هذا الذي يسكنني .. أريدك ألا تعزف بقلمك لتترجم آلامي .. أريد أن تكسر قلم الألم ..
أريدك أن تنشد الفرحة في كل مكان .. وتتأمل السعادة على مر الأيام .. لأن الحياة أمامك .. وحياتك تملكها أنت .. ولست مثلي تملكني حياتي ..
فقلت : كيف لا أكتبك ألما .. وكيف لا أعزفك بقلمي حزنا ، فأنتي بالنسبة لي عملة نادرة الوجود ، ويكفيني فخرا أنني أحسست بألامك ، ويكفيك تواضعا أنكي شعرت بأحزاني ..
فقالت : يا لورانس أريدك ان تعدني وعدا .. بألا تكتب عني .. فأنا حينما أقرأ لك أتألم جدا ، فيكفي أن الألام تسكنني ، فهل تريد أن أراها أيضا في حروف تقرأها عيوني .. لقد أتعبتني يالورانس ..
فخجلت بعض الشيء بتلك القناعة المذهلة ، والإجابة التي لم تخطر في فكري ..
فقلت لها : أعدك يا سيدتي ألا أكتب عن الألم مرة أخرى ، ولكن لا أعدك بأن أنشد الفرحة في مكان آخر ، لأني قد خلقت من الألم ، وترعرت على المعاناة ، وتربيت في كنف المأساة ، فشربت الهموم ، وأكلت من ورقات الحزن ، على مائدة الدموع الملتهبة ..
وفي الأخير .. بعد ذلك إبتسمت لي إبتسامة قاهرة ، ثم ذهبت إلى المرآة ، كي تزيّن كيانها ، كي لا يرى العالم حقيقة آلامها ، فيرتاع منها ، ويرق قلبه لها ، أما أنا فهناك .. واقف .. وقد كنت مشدوها .. نعم مشدوها من جمال هذه المرأة التي أراها أمامي ، ما ذا أرى .. جمال هادئ .. هادئ ، يملأ العيون ، وينير المكان ، نعم أرى هذا الجمال في تلك المرأة والتي أصبحت وكأنها تحفة نادرة ، قد رسمها فنان ماهر على لوحة مرآتي ، نعم لوحة هادئة الوجود ، بشموخ نادر ، وكبرياء ساحر ، وعنفوان مذهل .. ولكن ياللأسف .. تعيش داخل عالمها المؤلم ، هل أحسد تلك المرآة التي أحتضنت وجهها الساحر ! أم هل أحسد تلك الآلام التي سكنت داخل جوانحها !
لا أعرف .. ماذا إنتابني ساعتها .. أهي حرارة الأمل .. أم قسوة المطر والذي أسمع ترانيم قطراته الآن ، في حقيقة الأمر .. لا أعرف .
وبعد مضي بعض الوقت ، جاءت إلي .. وإذا بها تقترب مني .. وفعلا إقتربت وإذا بها تريد أن تحمل عباءتها ، فقمت أنا وحملت العباءة عنها ، وإذا بالعباءة أثقل مما كانت عليه من قبل ، فسألتها .. لماذا هذه العباءة أصبحت أثقل من ذي قبل .. فأجابت : لأنك قد تخليت عني يا لورانس .. نعم قد تخليت أنت عن ألامك ، فأصبحت أنا الآن أحمل ألامك وآلامي .. فقلت : توقفي لحظة : من سمح لكي بأن تحملي آلامي .. فآلامي ملك لي لوحدي .. فقالت : ومن سمح لك يا لورانس بأن تحمل العباءة .. وتسئل عن سبب ثقلها ، فقلت لها : ولماذا أنتي أجبتي على أسئلتي إ فقالت : أنت يالورانس ضحيت بألامك ، أما أنا فسأضحي لأجل ألامي ، ومن للألم غير تلك المؤلمة يا أخي الحبيب ، والألم لن يودعك .. إلا إذا أنت ودعته بعزيمة مشتعلة ، وقلب يريد الحياة .
وبعد ذلك رحلت سيدة الألم .. حاملة معها وعدا من لورانس ألا يرسم الألم .. ولا يكتب عنه طوال حياته .
وداعا أميرة الألم .. وداعا سيدة الحزن .. وداعا سحابة الهموم ..
وداعا ..
وتقبلي عزاء أقلامي لآلامك وآلامي ..
لـورانس
مواقع النشر (المفضلة)