البدهيات المقررة لدى الناس أجمع أنه لابد لكل وظيفة وعمل يقوم به الإنسان من إعداد وتهيئة، فالبناء لا يمكن أن يقوم به إلا متخصص، والصيانة لأعمال المنـزل، أو السيارة لا يمكن أن تتم إلا على يد من يعرف هذا العمل ويدرك أصوله، فكيف ببناء الإنسان وإعداده؟ والتربية عملية مهمة وصعبة، إنها إعداد للإنسان وغرس للقيم والمعاني، وهي وسيلة لإزالة الرواسب السيئة التي ترسخت لدى الإنسان بفعل عوامل ومؤثرات شتى. إنها تعامل مع عالم الإنسان، العالم الغريب بأحواله ومشاعره وعواطفه وسائر أموره. إن من يتعامل مع غير الإنسان يتعامل مع آلة صماء، أو حتى كائن حي يمكن السيطرة عليه وترويضه، أما التعامل مع الإنسان فهو أمر عسير؛ إنه التعامل مع الند والقرين، فإذا كانت التربية كذلك فلا يمكن ولا يسوغ أن تتاح لكل إنسان، بل وليس حمل المفاهيم الصحيحة، والخلفية العلمية والقدرة على الحديث والحوار، ليس ذلك وحده كافياً في أن يتأهل الشخص للتربية. ومن ثم يأتي الحديث عن صفات المربي وتحديد هذه الصفات لأمور عدة: فالأمر الأول: أن هذا يسهم في وضع ضوابط ومعايير يمكن أن يختار المربون على أساسها؛ فلا يتولى التربية إلا من يملك هذه الصفات ويتمثلها؛ فليست الأقدمية وطول الخبرة، ولا المؤهل العلمي وحده كافياً في تأهل الشخص للتربية. الأمر الثاني: أن تكون منطلقاً لتربية وتوجيه من يُعدُّون للتربية، بحيث يُسعى إلى تحقيق وتكوين هذه الصفات لديهم؛ فالمربون ليسوا هم الأفراد الذين يحفظون كماً من المعلومات أكثر من غيرهم، ولا أفراداً يجيدون الحديث أكثر من الآخرين، إنهم القادرون على أداء تلك المهمة العالية: مهمة بناء النفوس وإعدادها. الأمر الثالث: أن ذلك يقود المربين إلى مراجعة أنفسهم على ضوئها حتى يزداد عطاؤهم وترتفع قدرتهم ويعظم أثرهم ونتاجهم بإذن الله. الأمر الرابع: أن هناك مفاهيم واقتناعات غير صحيحة ترسخت اليوم عن العمل التربوي لدى طائفة من جيل الصحوة، ومنها: أ - اعتقاد أن كل الناس يجيدون التربية، وأن من استكمل مرحلة معينة في البناء التربوي وحصل قدراً من العلم الشرعي والمفاهيم فهو مؤهل لتربية غيره، ولو لم يكن يملك تلك الصفات الشخصية التي تؤهله لذلك. ب - اعتقاد أن الميدان التربوي هو وحده أفضل الميادين، وأنه ميدان الناجحين، وأن الفشل فيه دليل على ضعف تربية صاحبه أو ضعف قدراته . ومع الإيمان بأهمية هذا الميدان فليس هو الميدان الوحيد، وقد يفشل فيه من ينجح فيما سواه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تفاوت أصحابه وتباين قدراتهم، ومع ذلك لم يكن هذا مدعاة لانتقاص ما امتاز به فرد على آخر. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :''أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح'' .
مواقع النشر (المفضلة)