يحكى أنَّ أحد الأمراء كان ينشد شعراً أمام مدعويه، وبعد أن انتهى من إلقاء القصيدة سأل أعرابياً كان جالساً وسط الحاضرين:
هل أعجبتك القصيدة؟ أليست بليغة؟ فقال الأعرابي: ليست بها رائحة البلاغة فغضب الأمير وأمر بحبسه في الإسطبل وظل المسكين محبوساً فيه شهراً كاملاً إلى أن أفرج عنه الأمير وعاد إلى المجلس وذات يوم أنشد الأمير قصيدة أخرى وقبل أن ينتهي من إلقائها نهض الأعرابي وهمَّ بالخروج من المجلس فنظر إليه الأمير وسأله إلى أين فقال إلى الإسطبل يا مولاي.

إنها حكاية تتأرجح النفس فيها بين السرور والأسى.

إنها حكاية تُضحك وتُبكي فلا نستطيع أن نخفي ضحكة انتزعتها من أفواهنا، ولا ننكر جرحاً أوغرته في قلوبنا.

إنها حكاية تُضحك وتُبكي لا حزناً ولا فرحاً بل عجباً من واقع مرير ألقى بظلاله على منطق الأمير إبان تعامله مع صراحة الأعرابي ويا لبؤس ذلك الواقع الذي تلاشت فيه نقطة الاتزان، واغتيلت الصراحة، وغيبت الحقيقة على حساب مجاملة مشوهة بريق الفضيلة.

إنها حكايةٌ تمجد بطولة إنسان آثر عفن الحضيرة على بهرج الحضارة في سبيل أمانة الكلمة ونزاهة الرأي بل والصمود الشاق مغبة أن يرتكب جناية تزييف الحقائق، وتغيير معالم المثل وفي الوقت نفسه تصور صدعاً في خارطتنا الثقافية زاد من سحاقته عزوف نخب المجتمع عن كشف أقنعة سلوكيات التملق، وتقويم ما اعوج من مفاهيم بائدة طال عليها الأمد حتى أقصت الجميع عن ركب الحضارة.

فإن كانت تلك الحكاية هي الأولى التي تعبر تاريخ الإنسانية فلن تكون الأخيرة طالما أن المجتمع آل المصلحة الخاصة على مصلحة الجميع وأنى تكون الأخيرة وقد فُقدت من النفوس أهم مرتكزات التغيير وأسسه وما أخالها الأخيرة ودوافع الحقيقة أضحى هاجساً ترتعد منه الفرائص بل تتقاذفنا في دوامة الشك المظلمة.

فإن يكن الأعرابي طلب من مولاه أن يرجعه حظيرة الإسطبل لينجو من التملق الاجتماعي المقيت فإن أبا العلاء المعري تمنى الموت لينتشله من قيم هيمنت على عقول مجتمعه حاول جاهداً أن يغير كثيراً منها، ولكنه أخفق وما استطاع إلى ذلك سبيلاً شعر بعدها بالغربة الروحية وفقدان الذات وظل أسيراً لها حتى باح عن كآبته قائلاً:


فيا موت زر إن الحياة كئيبة

ويا نفس جدي إن دهرك هازل



ولم يكن أبو العلاء بدعاً في أمنيته بل سبقه المتنبي إلى تلك الأمنية بعد أن أعيته تلك الرواسب الفكرية المستشرية بين أبناء قومه ويئس من رؤية شعاع الوعي يضيء عقولهم ساعتها أحرق كل أوراق التفاؤل من حياته وجعل المنايا أمانيا لكي تخرجه من واقعه الذي لم يجد فيه ذاته بل رأى مداً مستعصياً من وهدات السلوك الاجتماعي فزفر زفرته قائلاً:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

تمنيتها لما تمنيت أن ترى

صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا



إن المآزق الاجتماعية التي مُني بها كل من ذلك الأعرابي ومثله المتنبي والمعري ما هي إلا حالات استثنائية لم ترق إلى مرتقى الظاهرة الملموسة في المجتمع، وما ذلك إلا لغياب النخب المؤمل فيها الأمل الكبير عن رسالتها السامية النبيلة في الحياة.

فمتى تكثر تلك النخب التي تعنى بشرف الكلمة، وسلامة الفكر، واتزان المنطق تتلمس جادة التطور والارتقاء في مرتقى الهرم الحضاري، تعشق الديناميكية وتخشى الانكفائية حتى لا تصيبها الأسونة أو تتخذها العناكب مأوى لها يضيرها تبعات الصدع بالحقيقة وإن كانت المكافأة ألف إسطبل أو معاداة جحافل من الدهماء فإنها علامة النجاح كما وصفها جين فاولر قائلاً: (إن النجاح كما عرفته من خبرة سنوات طويلة عبارة عن بالون بين أطفال مسلحين بدبابيس حادة) ووصفها سويف بقوله: (عندما يظهر عبقري حقيقي في العالم فإنك تستطيع أن تعرفه بهذه العلامة وهي تحالف الأغبياء ضده).

ترى متى تتغير تلك السمات المغلوطة التي وسم بها كل من تتوق نفسه إلى إرساء الحقائق ومتى نضع الأمور في نصابها السليمة وهل يا ترى يسعفنا الأجل أن نراها واقعاً ملموساً أم تبقى أمنية سابحة في عباب الخيال إني أتساءل والنفس يحدوها أمل مشرق أن ترى معالم الوعي تلوح في الأفق الرحب مبددة تلك الرواسب الاجتماعية التي حجبت الحقيقة عن أعيننا ملياً.