آسفٌ جداً. وقتٌ غيرُ مناسبٍ للاتصال. أعي ذلك، لكني وحيد ومحتاجٌ لك الآن. وحيدٌ يا صديقي. وحيدٌ إزاء كل هذا الليل والحزن والألم. غادرتني الأصوات والأصداء. ركلني المارّةُ في الطرقات. نبذتني الشواطئ فجئتُ أبحث عن مكاني بين أضلعك. لِم تركتني وحيداً هكذا؟! يطعنني شكٌ بأني فقدت صوتي. فتّشتُ في أروقة الصمت عنه فلم أجده. هل أملكه حقاً؟ هل تسمعني الآن؟ أضعتُ بوصلتي والخرائط، وغرقت سفني وسط العاصفة. أشعرُ أني مستباحٌ وغريبٌ أيضاً. غريبٌ، وطني القلب. ورقةٌ يابسة، تحت حوافر الرحيل. أبكي كثيراً. أنشجُ، فيسمعني الراحلون أينما أهدوا خطاهم، أو أشعلوا نيرانهم في قلوب المودّعين. إني أحتاجك كثيراً. أحتاج أن أسمع أي شيء لو كان تثاؤبك. إن كنت لا تستطيع التحدث، فاسمعني فقط. لن أطيل عليك كثيراً. لا وقت لدى حزني للتفاصيل الصغيرة. هل أنت معي؟ هل ترقب هذا التلاشي؟ هل تسمع هذا الأنين يا صديقي؟
]هل نملك غير الكلمات والشكوى لنطمس معالم أحزاننا ومواجعنا؟" أفسح لصوتي كي يهرب من الحزن. لعلّك لم تر حزني مذ التقينا آخر مرة. أضحى باسقاً يناطح السحب، ولكنه دون طلع. تصطدم به الطيور فلا تعود إلى أعشاشها. يفاجئ الطائرات فيفجعها بالضحايا. تمرد عليّ. حزينٌ وسط عالمٍ ينثر البؤساء. قلتُ صباحاً لنفسي: "ما جدوى مواجهة العالم بابتسامة مكسورة؟ رحلوا جميعاً، فلن أبرح الغرفة حتى يأذن الله في أمري". أوصدتُ الباب عليّ وعلى وجعي. أضربتُ عن ممارسة الحياة التي ألفتموها. هشّمتُ كل صِلاتي بهذا الكون. وظللنا نمارسُ الإضراب حتى جنّ علينا الليل. لم أكن وحيداً آنذاك. كانت معي صورةُ شوق. شوق المتمردة المجنونة الغريبة. رحلت هي الأخرى تاركةً لي صورة يتيمة. لو كنتما معي الآن لأطلعتك عليها. رفضتُ مسبقاً أن يرى أي رجلٍ تلك الصورة. كنت أحمل يقيناً أنها ليست بالصورة ولا باللوحة. إنها شوق نفسها، بجموحها، بجنونها، بتفجرها، بابتسامتها الغامضة، بعينيها الهادئتين الصاخبتين، تستعد لأن تقفز إلى قلب من يملك الصورة. إنها حياة شوق باختصار. كنتُ أجزمُ لو أن شوقَ همّت بجمع نثار العمر في جديلة واحدة، لما أبدعت كما أبدع من التقط تلك الصورة-العابرون فوق شظاياهم ـــ عبد العزيز الفارسي
قصة ـ من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2005
مواقع النشر (المفضلة)