المحبة كلها جنس واحد، ورسمها أنها الرغبة في المحبوب وكراهة منافرته، والرغبة في المقارضة منه بالمحبة، وإنما قدر الناس أنها تختلف من أجل إختلاف الأغراض فيها، وإنما اختلفت الأغراض من أجل إختلاف الأطماع وتزايدها وضعفها أو انحسامها، فتكون المحبة لله عز وجل وفيه، وللأتفاق على بعض المطالب، وللأب والابن والقرابة والصديق وللسلطان ولذات الفراش وللمحسن وللمأمول وللمعشوق، فهذا كله جنس واحد، اختلفت أنواعه كما وصفت لك، على قدر الطمع فيما ينال من المحبوب، فلذلك اختلفت وجوه المحبة. وقد رأينا من مات أسفاً على ولده، كما يموت العاشق أسفاً على معشوقه، وبلغنا عمن شهق من خوف الله تعالى ومحبته فمات.

ونجد المرء يغار على سلطانه وعلى صديقه، كما يغار على ذات فراشه، وكما يغار العاشق على معشوقه، فأدنى أطماع المحبة ممن تحب، الحظوة منه، والرفعة لديه، والزلفة عنده إذا لم تطمع في أكثر، وهذه غاية أطماع المحبين لله عز وجل. ثم يزيد الطمع في المجالسة، ثم في المحادثة والموازرة، وهذه أطماع المرء في سلطانه وصديقه وذوي رحمه. وأقصى أطماع المحب ممن يحب، المخالطة بالأعضاء إذا رجا ذلك، ولذلك تجد المحب المفرط المحبة في ذات فراشه يرغب في جماعها على هيئات شتى، وفي أماكن مختلفة، ليستكثر من الاتصال. ويدخل في هذا الباب الملامسة بالجسد، والتقبيل، وقد يقع بعض هذا الطمع في الأب في ولده، فيتعدى إلى التقبيل والتعنبق، وكل ما ذكرنا إنما هو على قدر الطمع. فإذا انحسم عن شيء ما لبعض الأسباب الموجبة له، مالت النفس إلى ما تطمع فيه.

ونجد المقر بالرؤية لله عز وجل شديد الحنين إليها، عظيم النزوع نحوها، لا يقنع بدرجة دونها، لأنه يطمع فيها. وتجد المنكر لها لا تحن نفسه إلى ذلك ولا يتمناه أصلاً، لأنه لا يطمع فيه، وتجده يقتصر على الرضا والحلول في دار الكرامة فقط، لأنه لا تطمع نفسه في أكثر. ونجد المستحل لنكاح القرائب لا يقنع منهن بما يقنع المحرم لذلك، ولا تقف محبته حيث تقف محبة من لا يطمع في ذلك، فتجد من يستحل نكاح ابنته وابنة أخيه، كالمجوس واليهود، لا يقف من محبتهما حيث تقف محبة المسلم، بل نجدهما يتعشقان الابنة وابنة الأخ، كتعشق المسلم فيمن يطمع في مخالطته بالجماع. ولا نجد مسلماً يبلغ ذلك فيهما ولو أنهما أجمل من الشمس، وكان هو أعهر الناس وأغزلهم، فإن وجد ذلك في الندرة، فلا تجده إلا من فاسد الدين، قد زال عنه ذلك الرادع، فانفسح له الأمل، وانفتح له باب الطمع. ولا يؤمن من المسلم أن تفرط محبته لابنة عمه حتى تصير عشقاً، وحتى تتجاوز محبته لها محبته لابنته وابنة أخيه. وإن كانتا أجمل منها، لأنه يطمع من الوصول إلى ابنة عمه، حيث لا يطمع من الوصول إلى ابنته وابنة أخيه.

ونجد النصراني قد أمن ذلك من نفسه في ابنة عمه أيضاً، لأنه لا يطمع منها في ذلك، ولا يأمن ذلك من نفسه في أخته من الرضاعة، لأنه طامع بها في شريعته. فلاح بهذا عياناً ما ذكرنا من أن المحبة كلها جنس واحد، لكنها تختلف أنواعها على قدر اختلاف الأغراض فيها، وإلا فطبائع البشر كلهم واحدة، إلا أن للعادة والاعتقاد الديني تأثيراً ظاهراً. ولسنا نقول إن الطمع له تأثير في هذا الفن وحده، لكنا نقول إن الطمع سبب إلى كل هم، حتى في الأموال والأحوال، فإننا نجد الإنسان يموت جاره، وخاله، وصديقه، وابن عمته، وعمه لأم، وابن أخيه لأم، وجده أبو أمه، وابن بنته، فإذْ لا مطمع له في ماله ارتفع عنه الهم لفوته عن يده وإن جل خطره وعظم مقداره فلا سبيل إلى أن يمر الاهتمام لشيء منه بباله، حتى إذا مات له عصبة على بعد، أو مولى على بعد، وحدث له الطمع في ماله، حدث له من الهم والأسف والغيظ والفكرة بفوت اليسير منه عن يده أمر عظيم.

وهكذا في الأحوال، فنجد الإنسان من أهل الطبقة المتأخرة لا يهتم لإنفاذ غيره أمور بلده دون أمره ولا لتقريب غيره وإبعاده، حتى إذا حدث له مطمع في هذه المرتبة، حدث له من الهم والفكرة والغيظ أمر ربما قاده إلى تلف نفسه، وتلف دنياه وأخراه.

فالطمع إذاً أصل لكل ذل، ولكل هم، وهو خلق سوء ذميم. وضده نزاهة النفس، وهذه صفة فاضلة مركبة من النجدة والجود والعدل والفهم، لأنه رأى قلة الفائدة في استعمال ضدها فاستعملها، وكانت فيه نجدة انتجت له عزة نفسه فتنزه، وكانت فيه طبيعة سخاوة نفس فلم يهتم لما فاته، وكانت فيه طبيعة عدل حببت إليه القناعة وقلة الطمع.

فإذن، نزاهة النفس متركبة من هذه الصفات. فالطمع الذي هو ضدها متركب من الصفات المضادة لهذه الصفات الأربع، وهي الجبن والشح والجور والجهل. والرغبة طمع مستوفى متزايد مستعمل، ولولا الطمع ما ذل أحد لأحد. وأخبرني أبو بكر بن أبي الفياض قال: كتب عثمان بن محامس على باب داره بأستجة يا عثمان لا تطمع.





من كتاب الاخلاق والسير لإبن حزم





ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ


قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ


رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ