إن صدق العقيدة وصحتها تضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلِّها، فإذا تكلم كان واثقاً، وإذا عمل كان ثابتاً، وإذا جادل كان واضحاً، وإذا فكر كان مطمئناً. لا يعرف التردد ولا تميله الرياح. يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها: (خُذُواْ مَاءاتَيْنَـاكُم بِقُوَّةٍ). (يا يحيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ). (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا). إنه أخذٌ بعزيمة لا رخاوة معها، لا قبول لأنصاف الحلول، ولا هزال ولا استهزاء. هذا هو عهد الله مع أنبيائه والمؤمنين، جدٌ وحقٌ، وصراحةٌ وصرامةٌ.

هذا جانب من القوة في رجل الإيمان، وجانبٌ آخر يتمثل في ثبات الخطى. حين يكون المؤمن مستنير الدرب، يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إذا رآهم على الحق أعانهم، وإن رآهم على الخطأ جانبهم، ونأى بنفسه عن مسايرتهم، متمثلاً التوجيه النبوي: ((لا تكونوا إمَّعةً؛ تقولون: إنْ أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا. ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)).

إنه توطين للنفس، وقسرٌ لها على المسار الصحيح، وإذا أردت أن تمتحن قوة الرجل في هذا فاستخبره أما الأعراف والتقاليد التي لا تستند إلى شرع: (إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى؟ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى؟ ءاثَـ؟رِهِم مُّقْتَدُونَ).

ينضمُّ إلى ذلك القوة في الحق، والقوة في المصارحة فيه. حين يبتعد المؤمن القوي عن المداهنة والمجاملة المذمومة؛ فتراه يواجه الناس بقلبٍ مفتوحٍ، ومبادئ واضحةٍ، لا يصانع على حساب الحق. ومن يحيا بالحق لا يتاجر بالباطل. المؤمن القوي غنيٌّ عن التستر بستار الدجل والاستغلال. سيرته مبنية على ركائز ثابتة من القوة والفضيلة والكمال.

ومن أجل هذا، فإن الصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبثق من هذا السمو النفسي والقوة الإيمانية، وقوة الاستمساك بالحق والرضا به ولو كره الكارهون ((لتأخذن على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطراً)).

إنها قوة في مصارحة المخالفين وتنبيه الخاطئين، إنها نقد للعيوب المعلنة، لا خوف من وجيهٍ، ولا حياء من قريبٍ، ولا خجل من صديقٍ. وبعبارة جامعةٍ مانعةٍ: لا تأخذه في الله لومة لائم. فهذا ضرب من القوة محمود في معاصي معلنة، ومذنبين مجاهرين. ولا تكون قوة بصدق، خالصة بحق إلا حين تبتعد عن مشاعر الشماتة، وحب الأذى، وقصد التشهير.

ويقترن بذلك نوعٌ من القوة آخر، إنه القوة في ضبط النفس والتحكم في الإرادة التي تنشأ من كمال السجايا وحميد الخصال. كإباء الضيم، وعزة النفس، والتعفف، وعلوِّ الهمة، وإنك لترى فقيراً قليل ذات اليد ولكنه ذو إرادةٍ قويةٍ، ونفسٍ عازمةٍ. شريف الطبع، نزيه المسلك، بعيدٌ عن الطمع والتذلل.

إن القوة في ضبط النفس، آخذة بصاحبها بالسير في مسالك الطهر، ودروب النزاهة، والاستقامة على الجادة. أما الرجلُ الخربُ الذمةِ، الساقط المروءةِ فلا قوة له ولو لبس جلود السباع، ومشى في ركاب الأقوياء. وقد قال بعض أهل العلم في هذا الباب: إن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، وإذا ملك الإنسان نفسه فقد قسر شيطانه.

أما القوة العسكرية فمطلب في الشريعة معلوم: (وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ).

إنها القوة التي تحفظ الإسلام وأهل الإسلام، فلا يُصدون عن الإسلام ولا يُفتنون. قوةٌ ترهب أعداء الله فعلى ديار الإسلام لا يعتدون. قوة ترهب أعداء الله فلا يقفون في وجه الدعوة والدعاة. وهي قوةٌ كذلك من أجل الاستنصار للمستضعفين والمغلوب على أمرهم؛ ليظهر أمر الله، ويح