أصيبت مجتمعاتنا العربية والمسلمة بداء خطير، تراجعت بسببه حضاريا وإنتاجيا بل أخلاقيا وسلوكيا، وهو داء عدم الإتقان أو الإجادة في أي عمل نقوم به، وللأسف وصل هذا الداء حتى إلى عباداتنا التي لم نعد نؤديها بخشوع وإتقان كما أُمرنا.

أجمع العلماء على أن غياب الإتقان يرجع الى عدم التزامنا بآداب وأحكام ديننا الحنيف الذي أمر بالإتقان والجودة في كل شيء، وحذروا من أن استمرار هذا الداء يزيد من ضعفنا وتراجعنا أمام الأمم الأخرى وفي ما يلي مختلف الآراء.

يؤكد الدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر أن ديننا الحنيف يأمر أتباعه بالإخلاص والإتقان في كل شيء يؤدى، ليس في مجال العبادات فحسب بل في جميع مجالات الحياة العامة من عمل وإنتاج وفي التعامل والسلوك لأن “الإخلاص ما كان في شيء إلا زانه وما خلا من شيء إلا شانه”.

وإذا كان سلفنا الصالح، وخاصة في صدر الإسلام، حققوا المعجزات وأقاموا حضارة ملأت الدنيا شرقا وغربا، فإن هذا لم يأت من فراغ، وإنما نتيجة الإخلاص والإتقان فيما كانوا يفعلونه ويقدمونه، وهو ما عرفوه بالتقوى التي وردت في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة ومنها: “فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (الأعراف: 35)، وقوله: “للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار” (آل عمران: 15).

سنة الله

لكن مع تقادم الزمن وتتابع الأجيال رأينا ابتعادا ملحوظا عن التمسك بهذه القيم الدينية النبيلة، بل انحرافا نحو كل الرذائل التي نهانا عنها ديننا الحنيف، مثل التواكل والسلبية والتركيز على المظهر من دون الجوهر، وكل هذا أدى إلى فشلنا ليس في الإضافة إلى ما حققه سلفنا الصالح فقط، بل فشلنا في الحفاظ على ما تركوه لنا من ذخائر وثروات وكنوز، حتى تحولنا إلى متسولين من غيرنا في كل المجالات، وهذا عار عظيم على أمتنا التي وصفها الحق سبحانه وتعالى بقوله: “كنتم خير أمة أخرجت للناس”.

غير أن هذه سنة الله في الكون وفي خلقه، فهو يعطي الدنيا لمن عمل لها أيا كان معتقده ومذهبه، وهذا ما حذرنا منه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال للسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها: “اعملي فاطمة فإني لن أُغني عنك من الله شيئا”، فهذا معناه أننا يجب أن نعمل ونتقن ونخلص لا أن نركن إلى تراث أجدادنا وندمره بإهمالنا إياه أو التفاخر به وحسب، فالمطلوب أن يجتهد ويجد كل فرد مسلم في أي مجال وضعه الله تعالى فيه، فهذه أمانة ومسؤولية سنسأل عنها يوم القيامة هل حفظناها أم ضيعناها.

وأن الإتقان في الإسلام أمر شرعي، بدليل أن جبريل عليه السلام عندما سأل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان أجابه بقوله: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” والإحسان له معنيان، الأول: التفضل والإنعام والثاني: الإتقان.

لكن مشكلة المسلمين أنهم حولوا القيم الإسلامية العملية إلى نظريات، وجعلوا هناك انفصالا بين القيم العملية والقيم النظرية، وهذه مشكلة خطيرة، فأنت تجد المساجد مملوءة ومكتظة بالمصلين الذين يستمعون إلى آيات القران الكريم ودعوة الإسلام الحنيف إلى العمل والإنتاج ومع هذا فهم يغفلون هذا الجانب، وقد يكون ذلك راجعا إلى مفاهيم أخرى سيطرت عليهم ولم تجعلهم يهتمون بالقيم العملية، خاصة تلك المفاهيم التي تقوم على أن الدنيا ليست للمسلمين!! وانه كلما كان الإنسان فقيرا ومتسولا كان أكثر قربا من الآخرة ومن الله!!

والحقيقة أن هذه مفاهيم مغلوطة لأنها فصلت بين الدين والدنيا وبين الدنيا والآخرة وبالتالي فضياع قيمة الإتقان راجع إلى الانفصال بين المفاهيم الإسلامية، ومصطلح العمل والإنتاج هو مصطلح عبادي، أي يقوم الإنسان به عبادة لله عز وجل، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”، ويقول أيضا: “إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”، فهذه المفاهيم ينبغي أن يقوم العلماء بإفهامها وتوصيلها للناس حتى يرسخ في الأذهان أن العمل والإنتاج عبادة لله عز وجل، وما أمرنا الله أن نعبده مما افترضه علينا من الفرائض الإسلامية والطاعات إلا لكي تستقيم حركة العمل في الحياة الدنيا.

قيمة أخلاقية عظيمة دعا إليها ديننا الحنيف ألا وهي إتقان العمل أيا كان هذا العمل دينيا أم دنيويا، على المستوى الفردي أم الاجتماعي، ولذلك نجد رب العالمين عز وجل يذكرنا بهذه القيمة في كتابه الكريم فيقول سبحانه وتعالى: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون”، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”.

ويضيف د. الصعيدي قائلا: ويهيب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل في موقعه وفي ما خوله الله تعالى من عمل أن يكون الفرد منا مراقبا ربه فيقول عليه الصلاة والسلام: “كل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام، فليحذر أن يؤتى الإسلام من قبله”.

فما أعظم هذه الدعوة وأجلّ نفعها، فإذا ما عضَّت الأمة عليها بالنواجذ نكون بحق وصدق خير خلف لخير سلف، ويرحم الله أمير المؤمنين هارون الرشيد حينما نظر إلى سحابة تسير في الفضاء فقال لها: “أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك بإذن الله”، فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذه النفوس أحسنت الخلافة عن الله عز وجل فأصبحت تنظر إلى هذا الكون على هذا المستوى اللانهائي وان الله تعالى إنما استخلفها ليحقق الخير للبشرية على يديها.

وإن نظرة عجلى على واقع امتنا الإسلامية التي وصفها الحق تبارك وتعالى بقوله عز وجل: “كنتم خير امة أخرجت للناس” لترينا مدى تفريطنا في هذه القيمة الحضارية الإيمانية العظيمة والأمثلة على ذلك من الواقع كثيرة ووفيرة.