استمتع بالقهوة لكن بحذر
كل حبة قهوة محمصة تحتوي على ما لا يقل عن 800 مركّب كيميائي، بعض منها يمنحها مذاقها المتعارف عليه، بينما يهبها البعض الآخر خصائص رائحتها المميزة. وحاولت الدراسات الأخيرة التقصي عن آثار عدد من أهم مكونات القهوة على الصحة، كالكافايين ومضادات الأكسدة والديتربين، وحددت محاسنها ومساوئها على حد سواء، وتبين أنّ قسماً من المعلومات المتداولة بين الناس لا يخلو من الخطأ.
محبو القهوة مثلا يعللون تناولهم المستمر لها بتعلقهم غير الارادي بمادة الكافايين التي يعتقدون أنّها محفز قوي لأنشطة الدماغ. وهذا أمر لا صحة له على الاطلاق حسب تأكيدات الدكتور أستريد نيهليج مدير بحوث في المركز الوطني الفرنسي للصحة والبحث الطبي، لأنّ القهوة لا تفضي الى الإدمان. ويشير في مقارنة بسيطة الى أنّ الحاجة البدنية لاستهلاك التبغ أو الكوكايين تمارس تأثيرا على دائرة خلايا “التعويض” العصبية، في حين أنّ الكافايين يُنَشط النواة المُذنّبة، وهي شبكة دماغية أخرى، ففي الحالة الاولى، تكون الاتصالات قوية لدرجة انّ الاحساس بالمتعة يرتبط مباشرة بالإيعاز الذي يؤمن إشباعه. في النواة المُذنّبة، تكون روابط التماس أكثر مرونة، فلا توفر المتعة المرجوة. وفي حالة التوقف المفاجئ عن استهلاك الكافايين، تبدو أعراض “التعلّق” به محدودة، كحصول الصداع أحيانا وارتفاع ضغط الدم بسبب تمدد الأوعية الدموية لغشاء الدماغ لمدة 48 ساعة كحد أعلى.
وهنالك فرضية أخرى واسعة الانتشار تقول إنّ القهوة تمنع النعاس، لكن بحثاً أجراه المركز الكندي لدراسات النوم في مدينة مونتريال وصدر في فبراير/ شباط الماضي، أظهر بأنّ هذا الاضطراب يخص بالأحرى أولئك الذين يتميزون بتحسسهم العالي تجاه مادة الكافايين. هذا “الايحاء الذاتي” يؤدي الى حصول تغييرات في بعض مراحل النوم، وترى مارتا فرنانديز بولانوس، المشرفة على البحث أنّ “تلك التغييرات لا تحصل في الدماغ فقط، إذ من الممكن أن يكون بعض الافراد معرضين لها وراثيا بصورة أكبر”. ومن جانبه، يعتقد باتريك ليفي، رئيس المعهد الوطني الفرنسي للنوم واليقظة أنّ “نشاط الكافايين المنبه نفسيا يبدأ بعد ثلاثين دقيقة من تناوله ويستمر لأربع ساعات كمعدل متوسط، وخلال هذه الفترة، يصبح الاسترخاء أقل عمقاً، حتى بالنسبة لأولئك الذين يكون تقبل الكافايين مرتفعاً لديهم”.
يفضل محبو هذا الشراب ليلا تناول القهوة العربية على اللاذعة منها، لأنّ حبوبها تحتوي على نسبة كافايين أقل بمرتين، كما يختارون القهوة السريعة على البطيئة الذوبان لأن قدرتها التنبيهية أكثر بثلاثة أضعاف.
الأمر المؤكد أنّ هذا المشروب يتمتع بخصائص مميزة، أولها أنّه يحفز الانتباه، إذ يقول باتريك ليفي بأنّ تناول القهوة على نحو معتدل يعد وسيلة مفيدة للتركيز خصوصا أثناء السياقة ليلاً. ومعروف أنّ “التيقظ الدماغي” ساعد على الدوام في مضاعفة إبداع عدد من كبار الفنانين والأدباء أمثال “باخ” و”فيردي” و”فونتنيل” وكذلك “فولتير” الذي كان يطلق على القهوة “الشراب الإلهي”. ولكن كيف يعمل الكافايين؟ إنّه يوقف نشاط المستقبلات الدماغية للأندينوسين، وهو العنصر الأساسي المنظم لعملية النوم، وكذلك لهورمون ميتلاتوني الذي يتدخل في دائرة “اليقظة-النوم”. وفي الوقت ذاته، تحفز القهوة الخلايا العصبية الناقلة المتصلة بمادة الأدرينالين والتي تثير المنظومة العصبية في حالات الإرهاق. ويزيد الكافايين أيضا من قابليات الأداء الحركي (15% من سرعة تقلص العضلات)، لدرجة أنّه يعتبر واحدا من المواد المنشطة بالنسبة للرياضيين، بيد أنّ جيلبير بيريس من المركز الصحي الجامعي التابع لمستشفى “بيتييه-سالبيتريير” في العاصمة الفرنسية باريس يؤكد بأنّ الكافايين لا يعد مادة منشطة إلا في حالة وجوده بتركيز عال جدا في الجسم، أي أنّه ينبغي تناول عدة لترات من القهوة لكي يعتبر الرياضي متعاطيا للمنشطات. وأظهرت دراسات أجريت على 140000 شخص خلال أربعة عشر عاما أنّ تحفيز القهوة للنشاط الحركي يشجع على إبطاء تلف الخلايا العصبية الذي يعد السبب الاساسي للإصابة بمرض “باركنسون”. ويشير أستريد نيهليج في هذا الصدد الى أنّ “خطر الإصابة بهذا المرض يقل بنسبة خمس مرّات إذا ما تناول الفرد أربعة أكواب من القهوة في الأقل يوميا”.
تأ ثيرات أخر
من بين مركبّات القهوة الأخرى مضادات الأكسدة التي تتواجد بصورة رئيسية في الفواكه والخضار. وتشير الدراسات الى أنّ كوباً من القهوة بسعة 150 مليلتراً يحتوي على كمية من البوليفينول (وهي المادة المضادة للأكسدة الاكثر فعالية إلى جانب فيتاميني سي وإي) التي تحتويها ثلاث حبّات من البرتقال. وطبقا لتحليل أجري في الترويج مؤخرا، فإنّ الوزن الكلي لهذه العناصر الدقيقة يبلغ 500 ملليجرام، مقابل 200 ملليجرام للكمية نفسها من الشاي. لكن ما هو دور مضادات الأكسدة؟ إنها تقوم بتعطيل عملية تشكّل بعض المواد السامة في الجسم مساهمة بذلك في مقاومة شيخوخة الخلايا. وتؤكد بربارة دورفين، من الجمعية العلمية الدولية للقهوة بأنّ هذا المشروب: “قد يقي من الإصابة بالأورام”.
ومع كل هذا، تبقى البحوث مستندة إلى الربط بين الوقائع المرصودة. على هذا الاساس، لوحظ مثلا انخفاض حالات الإصابة بسرطان الثدي بنسبة 10% لدى النساء اللواتي يتناولن ما بين كوب واحد إلى ثلاثة أكواب من القهوة يومياً. ودلّت المشاهدات أيضاً الى احتمال وجود أثر إيجابي لتناول القهوة على الإصابة بأورام السرطان الهضمية، إذ انّ هذا المشروب يزيد النشاط المعوي بنسبة 60% أكثر من تناول قدح ماء.
وعلى صعيد التأثيرات العكسية، تبدأ مضار القهوة حينما يتناول المرء أكثر من أربعة أكواب يومياً، فتضيع بذلك الفوائد الجمة التي تكتنزها حبوبها المحمصة، فهي تحتوي على مادة الديتربين المسؤولة عن نشوء نوع ضار من الكوليسترول يسمى LDL. وكما هي حال جميع البذور، فإنّ 15 إلى 18% من مادتها الجافة تتألّف من الزيوت. لذا فعندما سُمح لأشخاص في اليابان بتناول قهوة غير مصفّاة لمدة أسبوع، تبيّن بأنّ نسبة التأكسد بمادة LDL زادت لديهم بنسبة 8%. ومع ذلك، لا يظهر هذا الخطر إلا لدى الأشخاص الذين يستهلكون القهوة التركية أو المعدّة في غلاّية مزودة بمكبس، إذ يبقى المسحوق ممتزجا بالماء، أمّا إذا صفيت قبل تناولها، فلا يبقى وقتها إلا القليل من كمية الديتربين.
وتؤكد الدراسات أنّ للقهوة آثاراً سلبية على الضغط الناشئ في أوردة الجسم، وخَلُص ستة عشر بحثاً إلى نتيجة مفادها أنّ الضغط الانقباضي والانبساطي قد ازداد لدى أشخاص تناولوا 410 ملليجرامات على الأقل من الكافايين يومياً. ومن الامور المسلّم بها الآن أنّ الكافايين يساهم كذلك في رفع درجة القلق والعصبية والتحسس حسب طبيعة كل إنسان. وثمة سلبية أخرى أثبتتها دراستان الاولى أمريكية أجريت عام 2003 والثانية بريطانية نُفذت هذا العام وتتمثل في أنّ القهوة تؤدي إلى تسرب مادة الكالسيوم من الجسم، وهي ظاهرة تتسبب بمرض تخلخل العظام. وآخر الأعراض السلبية التي يتفق عليها جميع المختصين هي أنّ تناول القهوة بشكل مفرط يخلف بقعاً عنيدة فوق طلاء الاسنان المسمى “المينا”.
مواقع النشر (المفضلة)