الساعات القديمة دقات تاريخية في قلب المدن
تشكّل ساعات المدن ظاهرة سياحية مميزة لا تكاد تخلو منها مدينة في العالم، ولا تقتصر وظيفة هذه الساعات على الناحية الجمالية لأنها وسيلة لضبط حركة المدن وتنظيم إيقاعها اليومي. وتنتشر هذه الساعات القديمة في أكثر المحافظات والمناطق السورية، وتنتصب وسط الساحات المركزية لتشير إلى أهمية الوقت وتضبط إيقاع وحركة المدينة وهي تعلّق الوقت في الأفق رغم انتقال الساعات الصغيرة إلى الأيدي . وتعتبر هذه الساعات من التحف الأثرية الباقية، وتشكّل دلالات رمزية على انعطافات تاريخية مهمة في المنطقة، لتكون مؤشراً للزمن والتاريخ في وقت واحد .
وحمص أكثر مدينة سورية تحتوي الساعات القديمة في ساحاتها حيث تنتشر الساعات البرجية وغير البرجية لتضفي على الأمكنة جمالا مميز، ومن هذه الساعات “الساعة القديمة” التي تقع في ساحة الشهداء أول طريق حماة، وأقامها الفرنسيون حين احتلالهم لسوريا عام 1923 لذلك اعتبرها الأهالي رمزاً للاستعمار فاستغلوا كل مناسبة لتوجيه حجارتهم نحوها للتعبير عن اعتراضهم على تلك الفترة العصيبة . وهذه الساعة الفرنسية المصنوعة من النحاس لا تزال تعمل حتى الآن، ورغم عمليات التطوير الكثيرة التي شهدتها الساحة ظلت الساعة القديمة رمزاً تراثياً للمدينة، وتحولت في وقت سابق إلى شاهد على تنفيذ أحكام الإعدام بحق المجرمين في الساحة المحيطة بها .
الساعة الفرنسية: وبقيت حمص مستمرة في تمردها على ساعتها الفرنسية حتى يوليو/ تموز 1951 حين زارت المغتربة السورية كرجية حداد المدينة مع وفد سوري برئاسة الوزير المفوض في البرازيل آنذاك الشاعر المعروف عمر أبو ريشة، وخلال تلك الزيارة تبرعت بمبلغ 30 ألف ليرة سورية لبلدية حمص لإقامة ساعة كبيرة في ساحة جمال عبد الناصر وسط المدينة، ورفعت المبلغ فيما بعد إلى 60 ألفاً لاستكمال المشروع، وشيدت الساعة سنة ،1958 ومازالت تحمل اسم المغتربة حتى الآن. وتعطلت الساعة ذات مرة فكتب أحدهم في جريدة حمص المهجرية يدعو المسؤولين لإصلاحها فقرأ الخبر ورثة كرجية حداد في البرازيل ارسلوا عشرة آلاف دولار للبلدية لإصلاحها معتبرين أنفسهم مسؤولين عنها لأنها تحمل اسم عائلتهم وبعد عام 1964 تعهد قريب العائلة جورج مكوبجي بتجديد الساعة وتمويل أعمال صيانتها الدورية .
يتميز بناء ساعة كرجية حداد بأنه نموذج فريد ليس له مثيل في العالم فهو أقرب إلى شكل المأذنة ذات الطراز المربع، وتأخذ من الأعلى شكل القبة المربعة ذات الأقواس الأربعة وكل قوس منها عبارة عن باب وفي منتصف الأقواس توجد أقراص الساعة وعددها أربعة وكلها تعمل بالتوقيت العربي فقط، ويبلغ طول العقرب بحدود 100 سم، وهي مضاءة بمصابيح مخفية خلف الأرقام تشع باتجاه الداخل، ويلاحظ أن بناء الساعة من الحجر الكلسي الأبيض والرخام الأسود، وتآكل الرخام الأسود مع مرور الزمن وحاول المعنيون آنذاك تلميعه فلم يفلحوا، فاضطروا إلى دهن الرخام الأسود والإبقاء على الحجر الأبيض بشكله الطبيعي، والساعة الأم ساعة ميكانيكية من النموذج الفرنسي تعمل على التيار الكهربائي وموصولة بمحرك ربط مصنّع محلياً ابتكره الساعاتي عبد الله كيشي، ووظيفة هذا المحرك ربط الساعة أوتوماتيكياً في حال انقطاع التيار الكهربائي، وفي الساعة جرس مكون من ثلاثة نواقيس تعمل بواسطة مطرقة موصولة بمحرك كهربائي يعزف أنغاماً موسيقية تُسمع على مسافة 6 كيلومترات تقريباً، وللساعة رقاص من الخشب مثبت في نهايته قرص معدني .
هوية المدينة: تحولت ساعة كرجية حداد خلال ما يقارب نصف قرن من تاريخها، إلى جزء من هوية المدينة ودخلت في نسيجها الاجتماعي، ومما يذكر في هذا السياق أن الساعة تعطلت لمدة عشر سنوات منذ عام 1978 حتى عام 1988 مما أفقد حمص إيقاعها المعتاد، وكان هذا التوقف بسبب عدم توفر خبراء مؤهلين لإصلاح الساعة، ولكن ميزة أهل حمص في ابتكار النكات والطرف قادتهم إلى ابتداع طرفة حقيقية قد تكون لغرابتها غير قابلة للتصديق، وتقول هذه الطرفة الواقعية التي لا يزال يذكرها كل من عاصرها، أن وفداً سياحياً جاء لزيارة حمص وكان برنامج هذا الوفد يقتضي أن يمر بجانب ساعة كرجية حداد، وقد أعيت حينها الحيلة المشرفين على الساعة وعجزوا عن إصلاحها قبل مجيء الوفد فأحضروا “ساعاتي” ووضعوه داخل الساعة ليظل يحرك عقاربها كل دقيقة لمدة تتجاوز نصف اليوم حتى مر الوفد، فابتهجوا بالساعة دون أن يدروا ما يحدث بداخلها.
وبعد ذهاب الوفد السياحي بقيت الساعة معطلة حتى جاء الساعاتي عبد الله كيشي، وهو من عائلة اشتُهرت بتصليح الساعات منذ أكثر من قرن، فتولى إصلاح الساعة وصيانتها.
حركة مستمرة: وتتوزع الساعات الكبيرة في مختلف أنحاء سوريا، وتنتصب في وسط مدنها لتنظم حركة الناس اليومية بحركة عقاربها المستمرة في الدوران فوق أبنية عالية دائماً، ومن أهم هذه الساعات ساعة المرجة الباقية حتى الآن بهيكلها الحجري الداكن، وساعة حلب الواقعة وسط ساحة باب الفرج وبين عدة شوارع فرعية مفتوحة على عدة أحياء في المدينة الكبيرة، ورغم مشروع باب الفرج الكبير الذي تضمّن إزالة الأسواق والأبنية بقيت الساعة منتصبة وسط الساحة لأن بناءها الصغير اعتبر من أهم آثار حلب القديمة.
مواقع النشر (المفضلة)