يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الذاريات: “إنَّ المتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ. كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ. وَفِي أنفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ. وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ. فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أنَّكُمْ تَنطِقُونَ” (الآيات: 15 23).
بعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى في الآيات السابقة على هذه الآيات عن يوم البعث والجزاء والحساب، وتوعد المكذبين لذلك بأشد العذاب، تحدث هنا عن حسن عاقبة المتقين.. فقال: “إن المتقين في جنات وعيون”.
والمعنى أن “المتقين” وهم الذين صانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضي الله تعالى “في جنات وعيون” أي مستقرين في جنات وبساتين فيها عيون عظيمة، لا يبلغ وصفها الواصفون “آخذين ما آتاهم ربهم” أي هم منعمون في الجنات وما اشتملت عليه من عيون جارية، حالة كونهم آخذين وقابلين لما أعطاهم ربهم من فضله وإحسانه.
مظاهر الإحسان
وقوله “إنهم كانوا قبل ذلك محسنين” أي هم في هذا الخير العميم من ربهم لأنهم كانوا قبل ذلك أي في الدنيا محسنين لأعمالهم، ومؤدين لكل ما أمرهم به سبحانه بإتقان وإخلاص.
ثم بين سبحانه مظاهر إحسانهم فقال: “كانوا قليلا من الليل ما يهجعون” أي كانوا ينامون من الليل وقتا قليلا.. أما أكثره فكانوا يقضونه في العبادة والطاعة.
ثم مدحهم سبحانه بصفة أخرى فقال: “وبالأسحار هم يستغفرون” والأسحار جمع سحر، وهو الجزء الأخير من الليل.. أي وكانوا في أوقات الأسحار يرفعون أكف الضراعة إلى الله تعالى يستغفرونه مما فرط منهم من ذنوب، ويلتمسون منه سبحانه قبول توبتهم.
يقول الإمام الرازي في تفسيره: في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك، وأخلص منه، ويستغفرون من التقصير، وهذه سيرة الكريم، يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله، ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالليل ويستكثره. ثم مدحهم سبحانه للمرة الثانية فقال: “وفي أموالهم حق للسائل والمحروم”.
والسائل: هو من يسأل غيره العون والمساعدة.
والمحروم: هو المتعفف عن السؤال مع أنه لا مال له لحرمان أصابه، بسبب مصيبة نزلت به، أو فقر كان فيه، أو ما يشبه ذلك.
أي أنهم بجانب قيامهم الليل طاعة لله تعالى، واستغفارا لذنوبهم، يوجبون على أنفسهم في أموالهم حقا للسائل والمحروم، تقربا إلى الله سبحانه بمقتضى ما جبلوا عليه من كرم وسخاء.
فالمراد بالحق هنا: ما يقدمونه مع أموال للمحتاجين على سبيل التطوع، وليس المراد به الزكاة المفروضة.
دلائل قدرة الخالق
ثم لفت سبحانه الأنظار إلى ما في الأرض من دلائل على قدرته ووحدانيته فقال: “وفي الأرض آيات للموقنين” أي وفي الأرض آيات عظيمة وعبر وعظات بليغة تدل على وحدانية الله وقدرته، كصنوف النبات والحيوان، والمهاد، والجبال، والقفار، والأنهار والبحار، وهذه الآيات والعبر لا ينتفع بها إلا الموقنون بأن المستحق للعبادة إنما هو الله عز وجل.
ثم لفتة أخرى إلى النفس البشرية فقال تعالى: “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”.. أي: وفي أنفسكم وذواتكم وخلقكم أفلا تبصرون إبصار تذكر واعتبار، فإن في خلقكم من سلالة من طين، ثم جعلناكم نطفة، فعلقة فمضغة فخلقا آخر، ثم في رعايتكم في بطون أمهاتكم، ثم في تدرجكم من حال إلى حال، ثم في اختلاف ألسنتكم وألوانكم، ثم في التركيب العجيب الدقيق لأجسادكم وأعضائكم، ثم في تفاوت عقولكم وأفهامكم واتجاهاتكم في كل ذلك وغيره عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين.
ثم لفتة ثالثة للأنظار إلى الأسباب الظاهرة للرزق نراها في قوله تعالى: “وفي السماء رزقكم وما توعدون”، أي أن أرزاقكم أيها الناس مقدرة مكتوبة عنده سبحانه.
وقوله تعالى “وما توعدون” أي وفي السماء محددة ومقدرة أرزاقكم، وما توعدون به من ثواب أو عقاب، ومن خير أو شر، ومن بعث وجزاء.
مواقع النشر (المفضلة)