دعها تنسكب وحدها
إذا تعرض الانسان الى بلاء واشتد عليه الأمر وأحكمت الرزايا حلقاتها وأحس بالضيق والهم ولم يجد سوى البكاء ليخفف به من مصابه، فإنه لا يمنع مقلتيه من ذرف هذه الدمعات التي قد تجلب له شيئاً من الهدوء كما حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه ابراهيم حيث قال: “ان العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا”.
لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام رحيما على أمته وأهله ومشفقا عليهم، وكان يبكي على حال أمته خوفا من أن تتعذب بالنار، فعندما انكسفت الشمس روي انه قام يصلي فبكى حتى ابتلت لحيته وهو يدعو خوفا على امته من أن يهلكها المولى بعذاب من عنده، فكان يرفع رأسه وينفخ ويبكي وهو يقول: “ يا ربي ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك؟”.
موقف آخر كانت الدموع حاضرة فيه وذلك في يوم بدر الكبرى، يقول علي بن ابي طالب: “كانت ليلة بدر فدخلت على النبي عليه الصلاة والسلام وهو قائم يصلي ويدعو ربه ويبكي ويكثر من الابتهال والتضرع ان ينصر الله المؤمنين، وظل يبكي تحت الشجرة حتى أصبح”.
قام أحد الأساتذة في جامعة “أيوا” الأمريكية بتأليف كتاب طريف ورائع في علم النفس سماه “البكاء: التاريخ الطبيعي والثقافي للدموع” والسبب بسيط في اقدامه على تأليف الكتاب وهو ان الدكتور “توم لوتز” استاذ علم النفس في الجامعة كان من النوع العاطفي جداً فهو لا يستطيع الصمود امام مشهد او موقف عاطفي فدموعه تنهمر على الفور، واذا حضر فيلما عاطفيا او حزينا تبدأ دموعه بالهطول مما يجعل من المستحيل عليه متابعة أي فيلم يحضره، مما جعله يفكر جديا في تسجيل ملاحظاته عن المشاهد التي تدفعه للبكاء، وكانت النتيجة تأليف كتاب خاص بالبكاء.
قام الدكتور بتتبع الشحنات الاجتماعية والعاطفية وراء الدموع وتأثيراتها على الانسان من النواحي النفسية والروحية والتشريحية والاجتماعية وموقف الآخرين من الشخص الذي تنهمر دموعه، فأثبت في احد فصول كتابه أن الكثير من الناس يسيئون فهم الشخص الباكي ويعتبرونه ضعيف الشخصية، وأكد أن الدموع لها الكثير من المزايا التي لا تتوفر في اي مادة في جسم الانسان من حيث نتائجها الايجابية على نفسية الفرد فهي تعتبر الطريقة المثلى للتخفيف من الحزن والهم والقلق الذي ينتاب الانسان خلال فترات حياته.
يقول ابن معصوم:
واسفح دموعك ان مررت بسفحه
شغفا به ان الدموع جمانه
متى ما بدأت بالتوتر وشعرت انك تحتاج الى البكاء فعليك بالبكاء، ومتى شعرت بأن الطاقة التنفسية بدأت تضيق عليك الخناق فعليك بالبكاء ولا تخش من حولك، واذا وجدت ان الدموع تجعلك تشعر بالراحة فدعها تنهمر من تلقاء نفسها ومتى ما اعتقدت ان الدموع تخلصك من حزنك وتساعدك على الهدوء فعليك بالبكاء، واذا سمعت من يدعون ان البكاء مختص بالنساء وانه رمز الضعف والخوار، فأعرض عنهم لأن الدموع لا تعترف بالفوارق الجنسية، فالدكتور “راندولف كارنيليوس” استاذ علم النفس في جامعة “فاسار” في دراسته العالمية التي اجراها حول العديد من الاشخاص من بيئات ودول مختلفة كشف ان الرجال يبكون في الشهر 188 مرة والنساء يبكين حوالي 355 مرة في الشهر.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام رقيق القلب تتقاطر دموعه اذا سمع القرآن او اذا رأى احداً يبكي فقد ورد ان أبا هريرة رضي الله عنه قال: عندما نزلت الآية “أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون” (النجم: ،59 60)، بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما خرج الرسول اليهم بعدما سمع حنينهم جلس اليهم وهو يبكي معهم فلما جئنا اليهم ورأيناهم يبكون بكينا لبكائهم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: “لا يلج النار من بكى من خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصيته ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم”.
وكان صلى الله عليه وسلم كلما مر على الحجر الأسود للطواف دنا منه وقبله وهو يقول: “هنا تسكب العبرات”.
يقول عبدالله بن الشخير رضي الله عنه: “أتيت الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء”.
وفي الصحيحين ان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله رجلاً ذكر الله (أي وعيده وعقابه) خاليا ففاضت عيناه أي خوفا مما جناه واقترفه من المخالفات والذنوب.
مواقع النشر (المفضلة)