النذر الملزم لصاحبه
أمر الشارع بالوفاء بالنذر في نصوص عدة، منها: قول الله تعالي في وصف الأبرار: “يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا”، وقوله سبحانه: “وليوفوا نذورهم”، ولما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه”، إلا أنه مع هذا ثبت للعلماء خلاف في حكم النذر، فمنهم من يرى كراهته بإطلاق، ومنهم من يرى إباحته بل واستحبابه، ومنهم من يرى كراهة بعض أنواعه دون بعض، ويعنينا فى هذا المقام بيان حقيقة النذر الذي يلزم الناذر الوفاء به في الجملة، وقد اشترط الفقهاء في النذر حتى يكون ملزما للناذر: شروطا عدة في الناذر وفي المنذور وفي صيغة النذر، فأما الشروط التي اعتبروها في الناذر فهي: أن يكون الناذر مسلما، وهو شرط اعتبره جمهور الفقهاء، لأن النذر والوفاء بموجبه عبادة، والكافر ليس أهلا لها، ولم يشترط الحنابلة إسلام الناذر، إذ يرون صحة النذر وانعقاده من غير المسلم، مستدلين على هذا: بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال: “يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أوف بنذرك”، وما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم “أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة، وأن عمراً سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فقال: “أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك”، مما يدل على صحة وانعقاد نذر الكافر، ومما اشترطه الفقهاء في الناذر كذلك: أن يكون مكلفا، أي بالغا عاقلا، فلا ينعقد نذر الصبي والمجنون، لأن النذر تكليف، والصبي والمجنون ليسا مكلفين، لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق”، ومن هذه الشروط: أن يكون الناذر مختارا غير مكره على نذره، فإن كان مكرها عليه لم ينعقد نذره، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال: “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”، ونازع في اشتراط هذا الشرط الحنفية والمالكية، فأجازوا نذر المكره، لأن الإكراه لا يعدم الاختيار عند الحنفية، والنذر على أصل المالكية ملزِم على أي جهة وقع، ومن هذه الشروط: نفوذ تصرف الناذر فيما ينذر، فإن لم يكن مالكا لما ينذر لم يصح نذره به، كنذر المال المسروق أو المغصوب أو المستحق للغير، ومنها كذلك: أن يكون الناذر أهلا للتبرع إن كان المنذور قربة مالية لله تعالى، ولذا فلا يصح نذر المحجور عليه لسفه أو فلس أو نحوهما، لأن المحجور عليه ممنوع من هذه التصرفات المالية إما لمصلحة نفسه أو لمصلحة غيره، وأما الشروط التي اشترطها الفقهاء في المنذور فهي: أن يكون المنذور ممكنا شرعا وعقلا، فلا يصح نذر صيام الليل أو نذر الحائض الصيام أو الاعتكاف حال حيضها، لعدم إمكان ذلك شرعا، كما لا يصح نذر صيام نهار أمس، لعدم إمكان صيامه عقلا، ومن شروط المنذور: أن يكون قربة لله تعالى، فلا ينعقد النذر بمباح يكون للمرء أن يأتي به وألا يأتي به، كالأكل والشرب والنوم والتزود من الطيبات ونحو ذلك، لأنه لم يرد عن الشارع أمر به، وهذا عند جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية، ورواية عن أحمد)، ومشهور مذهب الحنابلة أنه ينعقد ويخير الناذر فيه بين الوفاء والتكفير عنه بكفارة اليمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فمن لم يستطع ذلك فصيام ثلاثة أيام، ولا ينعقد نذر المعصية ولا يصح: كنذر شرب الخمر أو القتل أو الصلاة مع الحدث، أو نحو ذلك، ومذهب الحنفية والشافعية عدم انعقاد هذا النذر وعدم صحته، وقيد جمهور الحنفية عدم انعقاد نذر المعصية بما كان حراما لعينه: كنذر القتل أو شرب المسكر أو السرقة، أو بما ليس فيه جهة قربة: كنذر ما يباح للمرء أن يأتي به وأن لا يأتي به، كالأكل والنوم والمشي، فإذا كان فيه جهة قربة: كنذر صوم يوم العيد أو أيام التشريق، فإن النذر به ينعقد ويجب الوفاء بصوم يوم أو أيام آخر على المعتمد في المذهب، ومن الحنفية من قال بانعقاد هذا النذر يمينا، وأن الناذر يلزمه في هذه الحالة أن يكفر عنه كالحانث في يمينه، ومذهب جمهور الفقهاء غير من سبق أن نذر المعصية منعقد وصحيح، إلا أنه لا يحل الوفاء به، لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: “من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعص الله فلا يعصه”، وقد اشترط الفقهاء في صيغة النذر: أن تكون باللفظ ممن يتأتى منهم التعبير به، وأن يكون هذا اللفظ مشعرا بالالتزام بالمنذور، لأن المعول عليه في النذر هو اللفظ، إذ هو السبب الشرعي الناقل للمندوب أو المباح المنذور إلى الوجوب بالنذر، فلا يكفي في ذلك مجرد النية وحدها من دون اللفظ، ويقوم مقام اللفظ الكتابة المقرونة بنية النذر، أو إشارة الأخرس المفهمة الدالة أو المشعرة بالتزام مقتضي العقود، ولا خلاف بين الفقهاء على أن من نذر فصرح في صيغته اللفظية أو الكتابية بلفظ النذر، أنه ينعقد نذره بهذه الصيغة ويلزمه ما نذر، فإذا خلت صيغة النذر من هذا اللفظ، كمن قال: لله عليّ كذا، ولم يقل نذرا، فإن جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة يرون أن النذر ينعقد ويلزم الناذر الوفاء به في هذه الحالة، إذا أتى بصيغة تفيد التزامه بذلك، لأن عدم ذكر لفظ النذر في الصيغة لا يؤثر في لزوم النذر، لأن من قال: لله علي كذا، ولم يذكر لفظ النذر، فإن لفظة “عليّ” في هذه الصيغة للإيجاب على نفسه، فإذا قال: علي المشي إلى بيت الله تعالى، فقد أوجب على نفسه ذلك، فلزمه، كما لو قال: هو علي نذر، فمن توافرت هذه الشروط في نذره فقد انعقد في حقه ولزمه الوفاء به، وإلا فلا.
مواقع النشر (المفضلة)