الإسلام لا يقصد إلى إيجاد مجتمع معصوم من الأخطاء، خال من المذنبين والعاصين بقدر ما يقصد إلى تغليب الخير والحق والصلاح على الشر والباطل والفساد في مجتمعه، وفي المنتمين إليه ويؤكد هذا قول الله تعالى: “ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير”.
فالمجتمع الإسلامي يشتمل على مراتب متفاوتة من الناس، فمنهم قوي الإيمان قليل المعاصي والآثام، ومنهم كثير الذنوب بل مرتكب الكبائر، وبينهما المقتصد الذي يخلط عملا صالحا بعمل سيئ، وفي كل فئة من هذه الفئات خير تكشف عنه الأحداث، ويبديه كر الليالي والأيام.
وليس من الإنصاف أن يزعم أحد أن المجتمع الإسلامي يستوي بسائر المجتمعات الأخرى بسبب وجود العصاة والمنحرفين فيه، ففي ذلك نكران لامتياز المجتمع الإسلامي بإيمانه بالله الواحد، وسيره على شريعته، وانطلاقه في دنياه من دينه، ولآخرته من حياته.
كما أن وجود أهل الشر ووقوع المعاصي في هذا المجتمع لا يعني أن مجمل الشر فيه كمجمل الشر في المجتمعات الأخرى، وبالتالي لا يمكن أن تستوي هذه المجتمعات بمجتمعنا الإسلامي في الخير والصلاح، ولا يمكن أن يستوي هو بها في الشر والفساد.
إن الحكم على المجتمعات بالصلاح أو الفساد يناط دائما بالغالب، فقولنا: إن المجتمع الإسلامي هو مجتمع الخير لا يعني أن الشر غير موجود فيه، وإنما يعني أن الخير كثير أهله، قوي أثره، وأن الشر قليل أهله، ضعيف أثره.
بل إن مرتكبي المعاصي من المسلمين يمتازون بأن بقية من حب الله ورسوله تستحوذ على نفوسهم وتوجه عقولهم وقلوبهم، حتى إنك يمكن أن تعرف فيهم وترى منهم خيرا يدهشك.
ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتى به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله”.
وجيء بأبي محجن الثقفي وقد شرب الخمر إلى سعد بن أبي وقاص يوم القادسية، وكان قد حد فيها مرات، فأمر به سعد فقيد وحبس، فلما رأى أبو محجن الخيول تجول وتصول حزن حزنا شديدا، وقال لامرأة سعد: أطلقيني ولك إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحتم مني، فحلته، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحا، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملك، لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: “الصبر صبر البلقاء، والظفر ظفر أبي محجن، وأبو محجن في القيد!” فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد، فلما علم سعد بالأمر قال: “لا والله ! لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلى لهم”، فخلى سبيله، فقال أبو محجن: “قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها ! فوالله لا أشربها أبدا”.
ومن هنا لا يحق لنا أن نبغض أهل المعاصي من المسلمين، وإن كنا نبغض معاصيهم، ففرق بين أن نبغض الذنب وبين أن نبغض المذنب .
وذنب العاصي من المسلمين - سواء أكان هذا الذنب صغيرا أم كبيرا - لا يبيح بغضه ومعاداته ؛ لأنه لا يخرجه من الإسلام، ولا يقطع أخوة الإيمان .
ولهذا قال أبو الدرداء لقوم يسبون رجلا قد أصاب ذنبا: “أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه ؟ قالوا: بلى ! قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم ! قالوا: أفلا تبغضه قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي”.
وقال عبد الله بن مسعود: “إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبا فلا تكونوا أعوانا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم اخزه! اللهم العنه! ولكن سلوا الله العافية، فإنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كنا لا نقول في أحد شيئا حتى نعلم علام يموت، فإن ختم له بخير علمنا أنه قد أصاب خيرا، وإن ختم له بشر خفنا عليه”.
مواقع النشر (المفضلة)