“تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا وهو العزيز الغفور” (الملك)، هكذا يقرر الخالق سبحانه وتعالى ان الموت مخلوق من مخلوقات الله وكذلك الحياة مخلوق من مخلوقات الله، فهو سبحانه وتعالى الذي خلق الموت وخلق الحياة من العدم وبقوله سبحانه للشيء “كن فيكون”.

والموت بذلك نقيض للحياة، وليس نقيضا للروح، فإما حياة وإما موت، وليس هناك حالة وسط بين الموت والحياة، وبما ان للحياة بداية فلها نهاية، وكذلك فكما للموت بداية فله نهاية، وكل حي سيموت إلا الحي القيوم.

أما انتهاء الحياة فهو من سنن الله الخالق عز وجل في الدنيا، حيث تنتهي حياة كل انسان بالموت، لا يستثنى من ذلك حتى رسل الله وانبياؤه الكرام، وقد عاش نوح عليه السلام قرابة ألف سنة ثم مات بعدها كغيره من البشر، وعاش اصحاب الكهف والرقيم اكثر من ثلاثمائة سنة ثم ماتوا، فالكل يموت حتى الجنين قبل ان يولد، ومن الناس من يرد الى ارذل العمر ثم يموت فليس هناك خلود في الحياة الدنيا، يقول الحق تبارك وتعالى لنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام “إنك ميت وانهم ميتون” فكل حي ميت حتما، وكلمة “ميت في الآية الكريمة وصف للأحياء وبيان لحتمية موتهم، بينما كلمة “ميْت” (بسكون الياء) تعني من قد مات فعلا وفقد الحياة وانظر الى قول الحق عز وجل: “أومن كان ميْتا فأحييناه”.. والموت هنا مظهر فردي يصيب الافراد والجماعات. وهذا المظهر الفردي لانتهاء الحياة يدل على حتمية موت كل انسان. فهل تنتهي الحياة كمظهر عام ويموت البشر جميعا ولا يبقى في الأرض أحياء؟ ان حياة الفرد تعني حياة اعضائه واجهزته وانسجته وخلاياه، وبمعنى ادق تعني حياة خلاياه، فالخلية هي المكون الأساسي للجسم وهي التي تتغذى وتتنفس وتنتج الطاقة، الى غير ذلك من العمليات الحيوية الأساسية لبقاء الانسان حيا، ولو ماتت الخلية لمات الجسد، فالحياة أساسها خلوي ومظهرها عام في الجسد.

ميلاد الخلايا وموتها

والخلية، أي لبنة بناء الجسد، أيا كان نوعها سواء خلية في الدم أو الجلد أو العظام أو الكبد أو القلب أو غير ذلك، كائن حي يولد وينمو ويتقدم في العمر ليصل الى اقصى نشاطه ثم تظهر عليه آثار الزمن وخطوط الشيخوخة وتبدأ في الضعف ويتنكس خلقها ثم تموت، وتموت في الجسد الواحد ملايين الخلايا في الثانية الواحدة من دون انقطاع، ولكن في الوقت نفسه تولد خلايا جديدة بالصفات نفسها والامكانات لتحل محل اسلافها وتقوم بمهامها نفسها امتدادا للوظائف نفسها، وبذلك يظل الجسد على حالته لا يتغير. وبذلك فإنك لو قابلت شخصا ما بعد نحو عشر سنوات فإنك تقابل شخصا آخر حيث تكون كل خلاياه قد ماتت وجاء غيرها ليحل محلها، فهل تشعر بذلك أو تتصور ذلك؟

كذلك الجنس البشري كله، يموت منه يوميا الآلاف، وقد تميت الأوبئة والحروب ملايين البشر في سنوات قليلة، ومع ذلك يظل الجنس البشري كما هو بالمواصفات والامكانات نفسها محتفظا بذاكرته وعلومه وتقدمه المادي المطرد عبر الاجيال، وبذلك فلو انطلق شخص الى الفضاء وعاد بعد خمسين أو بعد مائة سنة لوجد اناسا غير الناس الذين تركهم على الأرض وعلوما متقدمة وافكارا متغيرة ولكن اجساد الناس وصفاتهم كما هي، وذلك ما حدث لأصحاب الكهف الذين ناموا ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا ثم استيقظوا ليجدوا قومهم كما هم اجسادا وصورا والسنة ولكنهم مؤمنون، وهذا ما حدث للذي “مر على قرية وهي خاوية على عروشها. قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه” فعاد الى قومه بعد مائة سنة ليجد الأجساد والاوجه نفسها ولكن تقدم بهم الفكر والشكل المدني لقريتهم ومعيشتهم.

قيام الساعة

وهكذا يتشابه حال الجسد المفرد مع حال الجنس البشري كله في كونه يستمر في وجوده وحياته وتقدم معارفه رغم موت الملايين من افراده وفناء اعضائه واجهزته أو شعوبه وأممه.

وعودة الى جسم الانسان فإنه قد يصيبه مرض يفتك بأجزاء كثيرة منه، أو يتم استئصال اجزاء كثيرة منه ومع ذلك يبقى حيا نشطا مفكرا ذاكرا لكل ما تعلمه، وكمثال يمكن حدوثه لو فقد شخص اطرافه الاربعة واستؤصلت احدى كليتيه وجزء من كبده وجزء من امعائه واحدى رئتيه فإنه يظل حيا رغم كل ذلك، ومثل هذا يحدث بالنسبة للجنس البشري عندما تفنى أمم ويحصدها أمر الله بطوفان كقوم نوح، أو صاعقة كقوم عاد أو غير ذلك من أمر الله ومع ذلك يظل الجنس البشري في ازدياد وانتشار في الأرض بأمر الله، وذلك وجه آخر للشبه بين الجسد وخلاياه وبين الجنس البشري ومكوناته.

ولكن في لحظة واحدة ومن دون مقدمات أو علامات مسبقة تموت خلايا الجسد كلها مرة واحدة لا يتخلف منها شيء، تموت الخلايا المولودة مع الخلايا الفتية مع الخلايا الشابة مع المتقدمة في العمر من دون استثناء، تموت جميعها في لحظة واحدة معلنة انتهاء حياة الجسد كله وموته.. فهل يشذ الجنس البشري عن ذلك؟

ان أمر الله سبحانه وتعالى كلمح البصر إذا أراد أمرا ان يقول له كن فيكون، وهكذا تقوم الساعة بأمر الله فيصعق من في السماوات ومن في الأرض بأمر الله ويموت كل البشر من كان منهم في الأرض أو في قاع البحر أو في جو السماء أو على كوكب من الكواكب أو في سفينة فضائية، الكل يموت لا يستثنى أحد ولا يهرب من الموت أحد “ان الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم” و”أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة” “وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء” فقد حانت لحظة النهاية وجاء الأجل لا يستقدم ساعة ولا يستأخر، وكما تموت خلايا الجسد كلها في لحظة واحدة يموت افراد البشر كلهم في لحظة واحدة و”ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة”.

وهكذا يدل موت الجسد الواحد على حتمية موت الجنس البشري وانتهاء وجوده على الأرص، فالموت بداية التحول الى تراب يختلط بتراب الارض ويظل فيه حتى يبعث الله البشر يوم القيامة خلقا آخر أحياء كما كانوا مصداقا لقوله تعالى: “كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم يم يحييكم ثم اليه ترجعون”.

ويعود الانسان حيا من جديد، ولكنها حياة تختلف عن حياته في الأرض.. حياة تستمر بلا موت، حيث يطول يوم الحساب الى خمسين الف سنة وبعدها خلود في الجنة أو خلود في السعير، فلا يموت أهل الجنة ولا يموت أهل النار، حياة أبدية لا نهاية لها، فلا نوم ولا مرض ولا شيخوخة، بل نعيم مقيم أو عذاب مستديم.

ماهية الحياة

والحياة كلنا نعرفها بمظاهرها في الكائن الحي، فنقول: هذا حي وهذا ميت بناء على وجود تلك المظاهر والعلامات أو عدم وجودها. أما صفة الحياة ووصفها وخواصها وابعادها فكل ذلك غيب لا يعلمه إلا الله.

وتتميز الكائنات الحية عن غيرها من الميتة أو الجماد بصفات كثيرة، أهمها الحركة والاحساس والانفعال والنمو وانتاج الطاقة وعمليات كيميائية وكهربائية كثيرة لا حصر لها والاستجابة للمؤثرات المختلفة وغير ذلك.

وباستقراء واقع المخلوقات كما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى نرى مظاهر الحياة في كل شيء.. فالله سبحانه وتعالى “هو الحي القيوم” حي ولكنها حياة ليس كمثلها شيء، حياة جلت عن التخيل والتصور والتشبيه، حياة ليس لها بداية وليس لها نهاية.

وحين نقرأ قوله تعالى: “وان من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم” ندرك ان كل شيء يدرك وجود الله وقيوميته ويقدسه ويسبح بحمده ولكن بصور ولغات لا نعلمها ولا ندري عنها شيئا، فكل شيء بذلك حي ولكنها حياة ذات طبيعة لا يدركها العقل البشري.

وفي قوله عز وجل: “ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين” نجد حديثا الى السماوات والأرض، تسمعان وتعيان وتختاران وتجيبان، وهذه كلها من مظاهر الحياة، وتدبر بعد ذلك قوله تعالى: “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا” وانظر كيف يدل ذلك على نوع من الحياة الخاصة لما نطلق عليها “جمادات” ميتة حيث تسمع عرض الله للأمانة عليها ثم تأبى ان تحمل الأمانة إشفاقا منها على عظم تلك الأمانة، وتكون بذلك أعقل من الانسان “الظلوم الجهول”، أليست هذه مظاهر من مظاهر الحياة العاقلة؟

وعودة الى الجبال نجد قوله تعالى: “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله” أفلا يدل هذا الاحساس والشعور بعظمة كلمات الله وثقلها على نوع من الحياة الخاصة بالجبال “وإنّ من الحجارة لما يتشقق فيخرج منه الماء وانّ منها لما يهبط من خشية الله” وهل الخشية والخوف والخشوع إلا مظاهر للحياة؟

وحين ألقى الكفار بابراهيم عليه السلام في النار، جاء الأمر الى النار “كوني بردا وسلاما على ابراهيم” فانصاعت النار للأمر وحرقت كل ما عدا ابراهيم عليه السلام، وكانت عليه بردا وسلاما بالدرجة التي ينعم فيها ولا يتأذى بالحر ولا بالبرد، فالنار هنا تعقل وتسمع وتستجيب وتنفذ الأمر، وكل هذه من مظاهر الحياة في تلك النار. وغير ذلك مما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى وما جاء في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام مثل تسبيح الحصى في يده الشريفة وحنين جذع النخلة بصوت سمعه من في المسجد وغير ذلك.

المنظور الشرعي

وان كانت هذه الشواهد تدل على وجود الحياة بأمر الله في كل شيء إلا ان الحياة المعتبرة شرعا هي حياة الانسان والحيوان والطير وهذه الحياة لها مظاهرها التي ذكرناها والتي لو فقدت حكمنا على الانسان بأنه ميت لا حياة فيه، وقد اتفق الاطباء على علامات تدل على الموت فيما يطلقون عليه “الموت الاكلينيكي” وتوقف النشاط الكهربائي لجذع الدماغ تفريقا له عن “الموت البيولوجي” وهو موت الخلايا والذي يستمر لساعات بعد الموت الاكلينيكي، وخلال تلك الساعات القليلة التي تعقب الموت الاكلينيكي تكون الخلايا والأنسجة حية، حيث يمكن استئصال بعض الأعضاء كالقلب أو الكلية أو الرئتين خلال تلك الفترة لزرعها في اجساد مرضى أحياء، أما بعد ذلك وبعد الموت البيولوجي للخلايا فلا تصلح الأعضاء للزرع في اجساد مرضى آخرين لأنها ستكون “ميتة”.

أما من المنظور الشرعي فإن اليقين لا ينفيه الا يقين مثله، وبذلك يحكم على الانسان بأنه ميت عند فقدان مظاهر الحياة المعروفة كانعدام الحركة وعدم الاستجابة وانخساف الصدغين وغير ذلك من علامات يقينية.

ويمكن الوصول الى مفهوم الحياة بأنها خلوية، تتلخص في مجموعة من التفاعلات والأنشطة الكيميائية والكهربائية المستهلكة للمواد الغذائية والمنتجة للطاقة المؤدية الى حركة مختلف اجزاء الجسم والاحتفاظ بدرجة حرارته في نطاق محدود، وان هذه العمليات تتم بمحرك مجهول الهوية وهو الحياة التي هي سر من أسرار الخالق عز وجل.