مشكلات حلها الرسول ... الغلو والتطرف
شباب يحبون الله ورسوله، يريدون جنة عرضها السماوات والأرض، عابدون ناسكون، إلى هنا والحال أروع من رائع، إلا ان المشكلة تكمن في اعتمادهم الغلو والتطرف سبيلاً إلى الجنة، فكانت الوقفة النبوية بالمرصاد. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.
ظاهرة قديمة - جديدة
التمعن في الحديث يفضي إلى الوقوف على الفوائد الآتية:
الأولى: ثم قطاع من شباب الاسلام ممن سلف وفي واقعنا المعاصر من ينظر إلى الأمر من الزاوية المذكورة، ففي الحديث أنهم ثلاثة رهط، وأخرى أنكر النبي صلى الله عليه وسلم فعلها، فمن أنس رضي الله عنه قال: “دخل النبي صلى الله عليه وسلم (يعني المسجد)، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد”، وغلو آخر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم. فسأل عنه فقالوا: ابو اسرائيل نذر ان يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه”، وغيرهم وغيرهم، وتصدى لمثل هذا الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فعن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من احمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت، مما سلف يتبين ان الغلو كان في العصر الأول، فحصوله أمر ممكن الحدوث في ما تلاه من عصور، وعند الاقتناع بهذه الفكرة فسوف يمكننا هذا الاقتناع من حسن التعامل مع أمر نتوقع حدوثه، ولا يعني هذا قبولي به ولكن يعني ألا أقع في ما أحذر منه، أعني التطرف في العلاج لاعتقادي ان هذا لا يمكن أن يحدث.
التقليل من الآخر
الثانية: من مظاهر الغلو التقليل من الآخر، وهذا جلي في قول الراوي كما في النص: “كأنهم تقالوها”، أي وجدوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم قليلة، وهو العابد الأول صلى الله عليه وسلم، فمن سيصمد أمامهم، إن كانوا وجدوا عبادة سيد العباد قليلة؟ وهكذا فعل من قلل من قدر العلماء فقال: هم رجال ونحن رجال، فلم ير شيئاً الأئمة: أبا حنيفة ولا الشافعي ولا ابن حنبل ولا مالك عليهم جميعا سحائب الرحمة والغفران، وإلى يومنا ترى فريقاً من الغلاة من ينسف ويقلل من هذا العالم وذاك، يحقرون بذلك غيرهم ويرفعون أنفسهم ضمنياً، وهذا تطرف نهينا عنه، فإن رأيت هذا في نفسك فعالجها قبل ان يستفحل الأمر، وان كان في غيرك فنبه فالذكرى تنفع المؤمنين.
مخالفة الفطرة السوية
الثالثة: ان الابتعاد عن التأسي بالقدوة الأولى صلى الله عليه وسلم يقود إلى اعتماد اجتهادات تخالف الله ورسوله، وهذا من أفظع معاني الغلو، فالشباب الثلاثة ذهب أحدهم الى الصوم المطلق بلا افطار، والثاني قيام الليل أبداً بلا نوم، والثالث الرهبانية المطلقة بلا زواج، فتحريم الطعام والنوم والنساء، مما لا يجوز شرعاً، ولا يقبله العقل السليم، وتأباه الفطرة السوية، فبعملهم هذا ألغوا الشرع والعقل والفطرة، ومثل هذا الابتداع كثير، ومن ذلك ما حكي ان أبا مسلم الخولاني علق سوطاً في مسجد بيته يخوف به نفسه، فكان يقول لنفسه: قومي، فوالله لأزحفن بك زحفاً حتى يكون الكلل منك وليس مني، فإذا دخلته الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه، وقال: أنت أولى بالضرب من دابتي، وعن عتبة بن غزوان قال: قال لي أبو موسى الأشعري: ما لي أرى عينك نافرة؟ فقلت: اني التفت التفاتة، فرأيت جارية لبعض الجيش، فلحظتها لحظة، فصككتها صكة، فنفرت فصارت إلى ما ترى، فقال الصحابي أبو موسى رضي الله عنه مؤدباً هذا وأمثاله: استغفر ربك ظلمت عينك ان لها أول نظرة وعليك ما بعدها، وعن منصور بن ابراهيم قال: بينما رجل عابد عند امرأة، إذ عمد فضرب بيده الى فخذها، قال: فأخذ بيده فوضعها في النار حتى نشت، يعني يبست، ومثل هذه المواقف كثير، وكلها مخالفة لهدي الكتاب والسنة، لذلك كان من العلاج التأكيد على الثلاثة ومن سيأتي بعدهم أن الأساس والصواب ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم: “أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له”، بل كان الحزم النبوي: “فمن رغب عن سنتي فليس مني”، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يتبرأ ممن يغالي في الدين، وان سلمنا بحسن النوايا، لكنها لا تبرر الاساءة في الأعمال.
ملخص الأمر ان الغلو مرفوض، كما نصت على ذلك جملة أحاديث صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفتح بابه مدعاة للابتداع في الدين، ومن شأنه ان ينفر الناس من دين الله، ونتائجه وخيمة إن كانت في التعبد أو في الأسرة أو في الدولة، أعني في كل جوانب الحياة، وانه واجب على ولي الأمر والعلماء وأهل التخصص التصدي لمظاهر الغلو بعد التعرف إلى جوانبها واماراتها، وعليهم ان يتخذوا الاسلوب الحازم الرحيم، مع التأصيل بقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم.
مواقع النشر (المفضلة)