من العقوبات الشرعية ما ترك الشارع فيها لولي الأمر، سلطة تقديرية في اختيارها وتوقيعها على من يستحق، مراعاة لحال ارتكاب الجريمة، وظروف ارتكابها ومرتكبها، ومدى خطورتها على المجتمع الذي وقعت فيه، والمفاسد التي نشأت عنها، ومصادرة المال من صاحبه من هذا القبيل، فقد يكون ذلك هو العقوبة المناسبة للتهرب الجمركي مثلاً، أو للغش في المواد الغذائية أو الدوائية، أو بيعها بأعلى من ثمن مثلها، تضييقاً على الناس في أقواتهم وأدويتهم، كما قد تكون العقوبة المناسبة للمواد الثقافية التي تغذي الشباب بالفكر المغلوط، أو الأفكار الهدامة أو المخالفة لثوابت العقيدة، أو استغلال عناصر الطبيعة مما لم يأذن فيه ولي الأمر، وقد ذهب فريق من الفقهاء إلى أنه يجوز لولي الأمر أن يصادر المال من صاحبه كعقوبة له إذا رأى المصلحة في ذلك. وقد روي هذا عن أبي يوسف، وقال بعض الحنفية: إن مصادرة المال من صاحبه جائز إذ رأى القاضي أو الوالي ذلك، ومن جملة ما يجوز فيه أخذ المال عقاباً لصاحبه: عدم حضور الصلاة في جماعة من الرجال ونحوه، وقال الزاهدي: “لم يذكر كيفية أخذ المال، وأرى ان يأخذه ويمسكه فإن أيس من توبته يصرفه إلى ما يرى”، ويرى المالكية جواز التعزير بالتصدق عن المعاقب بما باع به الشيء الذي غشه، وثمة قول للشافعي في مذهبه القديم: بجواز معاقبة الجاني بأخذ ماله، ومما استدل به هؤلاء على جواز مصادرة المال من صاحبه عقوبة له، ما روي عن عامر بن سعد “أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه، فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم، أو عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرده عليهم” (السلب: ما يسلب، والمراد به هنا ثياب العبد فقط أو ثيابه وفرسه وسلاحه ونفقته، وغير ذلك مما يدخل في سلب القتيل من الكفار، والنفل: هي الغنيمة”، حيث أفاد الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح سلب من يصطاد في حرم المدينة أو يقطع شجره، وهذا تعزير بأخذ المال ومصادرته ممن ارتكب هذا الجرم، وما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق، فقال: من أصاب منه بفيه من ذي حاجة، غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة” (الخبنة: ما يحمله الآخذ في حضنه، والجرين، هو المكان الذي يجمع فيه التمر، والمجن: هو الترس الذي يستعمل عند القتال)، حيث عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حد السرقة بالقطع، لمن سرق من الثمر بعد أن يؤويه الجرين ما قيمته ثمن الترس، بأن سرق نصاب القطع، وعبر عما دون الحد بالعقوبة، وهي التي يستحقها من سرق من الثمر ما قيمته أقل من ثمن الترس، وأضاف إلى ذلك غرم مثلي المسروق، والقياس ان ما أخذه على هذا النحو يتضمن بمثله، فتغريم السارق مثلي ما أخذه هو نوع من العقوبة بأخذ المال، فدل هذا على جواز مصادرة المال من صاحبه، وروى جبير عن عوف بن مالك قال: “قتل رجل من حمير رجلاً من العدو فأراد سلبه، فمنعه بن الوليد وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك، فأخبره، فقال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته يا رسول الله، قال: ادفعه إليه، فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغضب، فقال: لا تعطه يا خالد.. لا تعطه يا خالد، حيث أفاد الحديث منع رسول الله خالد بن الوليد من دفع سلب المقتول لقاتله الحميري، لأن عوف بن مالك أغلظ لأجله الكلام مع خالد، مما أغضب رسول الله، ومنع السلب عن مستحقه على هذا النحو عقوبة بمصادرة المال ومنعه من صاحبه، وروى بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله يقول: “في كل ابل سائمة في كل أربعين ابنة لبون، لا تفرق ابل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى، لا يحل لآل محمد منها شيء، إذ أفاد هذا الحديث أن مانع الزكاة تؤخذ منه الزكاة جبرا عليه، ويعاقب على منعه الزكاة بأخذ نصف ماله، فدل هذا على جواز المعاقبة بأخذ مال من منع الزكاة، وروي عن عمر رضي الله عنه “انه شاطر سعد بن أبي وقاص في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه، وضمن حاطب بن أبي بلتعة مثلي قيمة الناقة التي غصبها عبيدة وانتحروها، وروي عنه انه غلظ وابن عباس رضي الله عنهما الدية على من قتل في الشهر الحرام في البلد الحرام”، وما فعله عمر وابن عباس هو من قبيل العقاب بأخذ المال، ولم يكن لهما ان يفعلا ذلك إلا عن توقيف، لأنه لا مدخل للرأي فيه، ويرى فريق آخر من الفقهاء عدم جواز معاقبة الجاني بمصادرة ماله، وقد ذهب إليه جمهور الحنفية، وقال الطرسوسي الحنفي: إن المصادرة لا تجوز إلا لعمال بيت المال، أي اذا كان بقصد ردها إلى بيت المال، وإلى هذا المذهب ذهب المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، وقال الطحاوي والغزالي: العقاب بأخذ المال كان في ابتداء الاسلام ثم نسخ وعليه الاجماع، وادعى الدسوقي المالكي: انعقاد الاجماع على عدم جواز أخذ المال كعقوبة لصاحبه، ولأن الشرع لم يرد بأخذ المال من المعاقب، فلا يجوز معاقبته به، وما تركن النفس إليه هو ما ذهب إليه القائلون بجواز معاقبة الجاني بمصادرة ماله، لقوة ما استدلوا به من السنة في الجملة، وأما ما استدل به الفريق الآخر على عدم شرعية المصادرة، فلا يقوم حجة لهم على مذهبهم، فقولهم: إن الشرع لم يرد بأخذ المال من المعاقب، تنقضه الأحاديث السابقة التي تدل على ورود الشرع بهذه العقوبة، واستدلالهم بالاجماع غير مسلم، لوجود من ينازع في حكم هذه المسألة، واستدلالهم بالمعقول على حكم هذه المسألة، هو استدلال بمعقول في مواجهة النصوص التي استدل بها أصحاب المذهب الأول، وهو لا يجوز، ومنع هذه العقوبة بدعوى سد الذريعة أمام الظلمة من الحكام، لا يقتضي منعها بالنسبة لمن لا يتحقق منه أخذ المال ظلماً، لأن الأصل عدم الظلم في مصادرة المال كعقوبة لصاحبه.